جاد أبو حمزة – تفاصيل برس – السويداء
هل أنت مستهتر بحياتك وأحبابك عندما تنزل إلى المظاهرات؟ وأنت مهدد بالاغتيال أو الاعتقال في أي لحظة؟ وأنت القارئ لأدب السجون والمعتقدات وتعلم كمية الخسارات التي ستلقاها؟
هي عدة أسئلة وُجّهت إلينا عندما شاركنا في مظاهرات السويداء منذ أكثر من عام، والجواب عليها يطول، سأحاول الاختصار قدر المستطاع.
هي حلم تحقق بانتفاضة عارمة حشدت فيها آلاف المستضعفين في قرى و مدن السويداء، ويعلم يقينا كل شخص شارك فيها أنه يحمل روحه على كفه ثمنا للحرية المنشورة وإسقاط هذا النظام القمعي الذي فاق بشاعة كل الأنظمة المستبدة التي سمعنا عنها في التاريخ البشري.
لم تعد الحياة هنا في سوريا ذات قيمة وصار هاجسنا البحث عن طرق الهرب والهجرة من هذا الجحيم المستعر، بعد أن تعامى المجتمع الدولي عن جرائم النظام، بشكل مفضوح، وترك البلد مستعمرة من خمسة جيوش على الأقل ومليشيات طائفية حولت الثورة السورية إلى صراع بين المكونات ونجحت في ذلك وصدرت للخارج على غير حقيقتها، فتمت أسلمتها وعسكرتها، ليسهل القضاء عليها.
في أول ثلاثة أشهر من الانتفاضة كانت المعنويات عالية والآمال كبيرة وتطلعات السوريين إلينا أكبر، في إعادة الثورة لمسارها الأول وتجديدها، تفاجئ النظام ولم يتخذ ضدها إجراءاته المعروفة العسكرية والأمنية لعدة أسباب منها عدم رغبته في خسارة محافظة جديدة، وتطمينات أجهزته بأنها موجة عابرة صغيرة و ستنتهي لوحدها دون تدخل..
لكننا استمرينا أشهراً بعدها، بل وزادت النشاطات الثورية (اجتماعات، تيارات سياسية، فعاليات فنية وحقوقية متنوعة)، اتبعت أجهزة المخابرات عدة أساليب لتشويه الحراك الشعبي والمشاركين فيه، تارة بالإساءة الإعلامية والتشهير بنا وتارة بالتخوين والارتهان لدول معادية ومؤخرا بتسطير مذكرات إحضار بحق الناشطين فيها، موجهة بعدة جرائم ملفقة لا أساس لها من الصحة شيئاً وأحكام بالمصادرة للممتلكات في محاولة مكشوفة ومتوقعة لإنهاء الانتفاضة وتشتيتها وتخويفنا للعودة إلى بيوتنا والانكفاء على ذاتنا وزرع الشعور بخيبة الأمل بعد أن لمسنا قلة التفاعل معنا من باقي المحافظات ولهم أسبابهم التي نعذرهم فيها طبعا بعد القتل والتهجير الاعتقال الذي تعرضوا له.
مع انتشار الوعي الاجتماعي والسياسي بدأ الحديث عن سؤال هام؟ هل الشارع مهيأ الآن لإخراج مكون سياسي يعبر عنه؟
وكان جوابنا بسيط جداً، ألا تكفينا خمسون سنة من الاستبدال والظلم، أليست سوريا ولَّادة لأعلام الفكر الإنساني؟ أليس بمقدورنا قيادة بلدنا بأنفسنا؟ أليست مطالبنا محقة وأصبحت ضرورية جداً في ظل دولة شبه متهالكة منتهية الصلاحية وكرسي رئاسة وهمي سيأخذنا جميعا إلى الهاوية عاجلا غير آجل؟ جميعا أي ليست المعاناة حكرا على المعارضين بل المؤيدين و الرماديين أيضاً.
استمرت الثورة وظهرت تجمعات وهيئات كيانات جديدة منها التجمع المهني الذي يضم أحد عشر مكونا، في خطوة اعتبرها الكثير إيجابية في طريق التحرر وبداية نواة مجتمع مدني حقيقي لم يسمح له الأسد الأب والابن أن ينمو في سورية، وقمعه بوحشية منذ استلامه للحكم بانقلاب عسكري عام 1963.
لكن أيضاً واجهتنا عقبات و سلبيات بسبب كثرة غرف الواتساب، والتيارات الجديدة والتي افتقدت الجدية و الخبرة السياسية والإدارية والتنظيمية، وعدم وجود احترام الرأي الآخر وسيطرة الأنا المتضخمة على البعض وحب الظهور الإعلامي، والانتهازية والخروقات الأمنية، وأيضاً استطعنا التكيف مع هذه الظواهر الطبيعية الموجودة في كل ثورات العالم، وتجاوز تلك العقبات نوعا ما، والبحث عن تطوير مهاراتنا وقدراتنا، وإيصال رسالتنا السلمية الحضارية لكل العالم أننا نعشق الحياة إن استطعنا إليها سبيلا، ونريد السلام لا التخريب والهدم، ونريد مستقبلاً جميلاً يليق أطفالنا ونريد المعتقلين أن يتحرروا والمهجرين أن يعودوا لأرضهم وبيوتهم وعائلتهم ونريد دولة القانون الحريات والمساواة كباقي الشعوب.
فلجأ النظام إلى التهديد الصريح بالاقتحام بالسلاح والعتاد واعتقل بعض الناشطين، ولكن لم ينجح في كسر إرادة المتظاهرين السلمين وعزيمتهم زادت واستطاعوا بمساعدة بعض فصائل الحماية المحلية الغير محسوبة على النظام و التابعة له، بالضغط عليه وإطلاق سراح المعتقلين، في تحدٍ تصعيدي كرسالة أننا متحدون و أقوياء ولا نخشى العواقب.
أيضا واجهنا عقبة تهم التخوين والانفصال، من باب أن هناك مشروع إنشاء منطقة آمنة في الجنوب أو إقليم مستقل تحت شعارات وذرائع يراد بها عكس ظاهرها الجميل من خلال تطبيق لنظام اللامركزية، ولكن أيضا فشلت تلك المحاولات حتى اللحظة الراهنة وبقيت حناجرنا تصدح بشعارات الثورة السورية العظيمة من أن الشعب السوري واحد ويجب أن يبقى موحدا رغم الانقسامات المفروضة عليه واقعيا والتبعية لأطراف الصراع العالمي وهم اللاعبين في مصير و مقدرات بلادنا،.
انتقلت الانتفاضة لمرحلة التنظيم الذاتي و توحيد الجهود التي تهدف للخلاص من نير القمع والظلم إلى فضاء الحرية الرحب، إلى بناء الإنسان السوري الجديد متخلصا من آثار الحروب المدمرة، لكنها أيضا شهدت تراجعا في الزخم الجماهيري اليومي وأصبحت الاعداد أقل من ذي قبل و هذا أمر طبيعي أيضا من وجهة نظري والأسباب كثيرة، منها التعب و الإرهاق، منها أحداث غزة و لبنان والاجتياح الإسرائيلي لهما، وتخاذل العرب قبل الغرب في نصرة قضيتنا العادلة، إلخ إلخ.
كان لزاما علينا أيضا إخضاع انتماءاتنا الجزئيّة وتحزّباتنا الضيّقة لمعايير وطنيّة جامعة، يمكن انطلاقا ومن السويداء لباقي المحافظات، وبلورة أسس عامّة ومشتركة لا خلاف عليها، تتيح للتمرّد أن يتطوّر بدلا من أن ينتكس، وتحدّد أولويّاته البرنامجيّة والتطبيقيّة، في ضوء توحيد قواه المجتمعيّة والسياسيّة، وأخذه إلى ثورة صعدت من تحت الركام، تنخرط فيها فئات المجتمع ككتلة موحدة الرؤية والتنفيذ، وتتيح لها تخطّي النظام وعالمه الفاسد والاستبداديّ، ووضع أحجار الأساس لعالم يعد بالحرّيّة، لا فرق فيه بين أديان أو مذاهب أو أجناس أو ألوان، ينتجه عمل وطنيّ متنام يُحرّر الحراك من المحلّيّة الضيّقة، والنزعات الزّواريبيّة والعسكرة، والانقسام، والمصالح الشخصيّة، والمطامع التي تتعارض مع تضحيات الشّعب وحريته.
ناحية جدا مهمة غياب الذين كان عليهم قيادة وتوحيد حراكنا عن تم عزلهم أو إقصاءهم أو ابتعدوا من قيل أنفسهم عن تصدر المشهد، واقتصر دورهم على مواصلة التّظاهر وتقديم النشاطات الثورية، ومنهم من كان بانتظار مبادرة الخارج إلى إسقاط عدوّه المنهمك أساسا، والذي اتبع في تدميره السورية أكثر الطرق همجيّة ومنهجيّة(عصابات، فساد، مخدرات، فقر، خدمات شبه معدومة..إلخ)، هذا العدو المصمّم على إحراز غلبة مطلقة عليهم، وتعميق انفصال المعارضة عن تعاضد وانضمام شعبي واسع، وتعميق انفصاله عنها، ودفعه إلى انحرافات من شأنها أنْ تبعده عن سلميته، بدعم فصائل مسلحة من قبله محسوبة عليه و تدعي محاربتها له، وتبعدنا شيئاً فشيئاً عن حلم الحرّيّة والشّعب الواحد، وتعزّز قبوله بهزائمه لأنّه_ كما يحب أن يروج _ براغماتي واقعي لم يعد لديه القدرة على تبني حلم أو أمنيات، وخداعه ببديل إسمي كصراع مذهبيّ طائفيّ لا مكان فيه لأكذوبة الشّعب السّوريّ الواحد، ولأوهام الحرّيّة والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية.
هذه السردية السريعة لما استطعت تذكره من بعض الأحداث وليست تفصيلية لانتفاضة السويداء التي أكدت مجددا على مقولة أن الثورة فكرة و الفكرة لا تموت وهي هبات و موجات تخبو تارة و تعلو تارة أخرى، و لم لن يستطيع حاكم مستبد نزعها و ردعها وتهجين أحرارها مهما زاد في البطش والدمار.
ويحرّكنا الإيمان بانتصار هو حقٌّ، يستند إلى عدالة إلهيّة تغني السوريين عن الحاجة إلى تدخل دولي مزعوم لن يأتي إلا بعد دمار كامل و ارتهان شامل، و نعلم أنه يلزمنا المتابعة المتأنّية للتطوّرات، والعمل بمثابرة لامتلاك مستلزمات انتصارهم، وهزيمة دولة الرعب.