د. محمد جمال طحان* – تفاصيل برس
ما الذي يدفع بنا إلى عالم الوهم والرؤى الحالمة؟.. إنها الانكسارات المزمنة التي تُورث مَنْ يحيا بشعوره قلقاً أبدياً.
وتعزّز الخيبةَ الأسئلةُ اللانهائية التي تبحث عن أجوبة من غير جدوى، واللاءات التي تواجهنا كجدران الرعب كلما رغبت الروح أو الجسد في موضوع من العالم الخارجي. هل يكون الحلم هرباً من واقع لا نرغب في مواجهته، أم أنه ملاذ من واقع لامعقول؟
إن مَنْ يتأمل نفسه جيداً يراها في حرب بين الغرائز والقيم، ويراها محكومة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفكرياً، وليس لها من حرية الاختيار إلا الموت قهراً أو اللجوء إلى واقع متخيّل، فيه قليل من الحرية، وبرهة من العدل. وصرخة من المساواة.
لهذا، وبهذا، ومن هذا، يتشكّل عالم الوهم كعالم يمكن أن يُعاش. وإذا كانت المعرفة فضيلة في زمن الحرية، فإنّ الجهل فضيلة في زمن يلعن فيه الشهوانيون عُباد الشهوات.
وتصبح ، لحظتئذٍ، الرغبة في جهل ما نجهله، ومالا نجهله، راحة للمتعبين. ومن ذلك رغبتنا في أن لا نعلم كيف يُثاب المرتشون، ويُقمع من يطالب بزيادة أجره. وهكذا قُلبت الموازين وأمسى القانون كلمة حق أريد بها باطل. يحمي الذئاب من أنامل الضعفاء.
لقد تحوّلت حقوق الإنسان إلى حق الانصياع أو الموت، وحق النفاق أو الجوع، وحق الظلم أو الاحتيال، وحق السجود أو السجن، وحق الذل أو الألم… وانحصرت حرّيته بين أن يكون قاتلاً أو مقتولاً، ولا ثالث لهما.
أما الحقوق والحريات المدوّنة في وثائق حقوق الإنسان وفي الدساتير، وفي بيانات جمعيات الرفق بالحيوان، فهي مدونة للتزيين وكأنها موثّقة للإشارة إلى أن ما هو مكتوب لا علاقة لنا به.. تماماً كما تدوّن ذكرياتنا كي ننساها.
أمّا نحن العرب فقد انتهينا من تلك الترّهات، وإنما نكتبها في دساتيرنا تذكيراً للأجيال القادمة بما كنا عليه من رَغَد.
فنحن نمتلك الحرية ونملكها، ولنا كامل الحق في التفكير والتعبير والممارسة. ولدينا مقوّمات العيش الحر الكريم. ونعيش في استقرار نفسي واجتماعي واقتصادي، إذ نتحلى بالتقدم المادي فضلاً عن التقدم الروحي والقيم الدينية الرفيعة. وبهذا نتفوّق على ما يُسمّى بالعالم المتقدّم الذي يغرق في الماديّة ويفتقر إلى الأخلاق، ولا يتمثّل قيمَ الخير والحق والجمال.
أما الديمقراطية عندنا فهي لكل مواطن، وبحسب فهمه إياها: فلنا حق الانتخاب والترشيح والتصويت وقول الحق عند السلطان الجائر، ولنا الحق في الموت على يديه أيضاً. وبهذا نسبق ديمقراطية أوروبا الغربية والشرقية والشمالية، ونخلّفها في جنوبنا مع مثيلتها الأميركية التي تقتتل فيها الأحزاب، وتكلف حملاتها الانتخابية مليارات الأوراق الخضراء، ثم تنتهي بأن يفوز مرشحوهم بعضوية مجلس الشعب بنسبة خمسين أو ستين بالمئة على أكثر تقدير.
أما نحن، فمن دون صراع، ومن دون تكاليف، ومن دون تزييف، ومن دون قسر أو إكراه، يفوز مرشّحنا بنسبة لا تقل عن تسع وتسعين بالمئة بأي حال. إنها الوحدة الوطنية والتلاحم الوطني (من اللحم).
إننا نأكل الطعام نفسه، ونشرب من نهر واحد، وندرس المنهاج نفسه، ونُضرب بالسياط ذاتها، فمن أين تأتي المعارضة إذاً ؟
نحن لا نرغب بتسنّم العرش، ولا نستعمل الوسائل الشريرة لاستلام المناصب، لأننا ندرك أن “السلطة مفسدة”، كما قال مونتسكيو، ونعلم تمام العلم أن المعارض إنسان لم يجد له حصة في بقرة الحكم، فراح يفتّش عن عظام القِرَدة معلناً أن البقرة لم تُذبح على الطريقة الإسلامية. لهذا نحن لا نرغب لا بالبقرة ولا بالعظام.
صحيح أن لدى بعضنا أحزاباً متعددة، ولكن برامجها واحدة، وأهدافها واحدة، وأسلوبها واحد، وتنتمي كلها إلى أب واحد، فأصلها واحد، وآمالها واحدة، وتعبد إلهاً واحداً. لهذا نتقدم باستمرار، ولهذا تتوالى انتصاراتنا، ولهذا لا نتغيّر.
إن مبادئنا ثابتة، وقيمنا ثابتة، وفكرنا ثابت، ولهذا – كنا وما نزال وسنبقى – ( خير أمة أُخرجت للناس ). فإذا تغيّرت الأحزاب، وتبدّلت أشكال الحكم في العالم من حولنا، وتجددت أشكال الاقتصاد، فذلك لأن الأوروبيين على خطأ منذ البداية، ولم يهتدوا إلى وضع صيغة نهائية للكون والحياة والحكم والاقتصاد والتفكير والإنسان…
وربما للسبب نفسه نبقى رافعين شعارات: التحرير والوحدة والحرية، ونحرص على استمرارها، لأنها إذا تحققت سقطت، وهذا يعني أن شعاراتنا كانت زائفة وليست أبدية ولا نهائية، وهذا يخالف فلسفتنا الثابتة والنهائية والأبدية.
وربما للسبب نفسه نحرص على أن نبقى مصنّفين من دول العالم الثالث أو الرابع أو السابع – مع أننا متقدمون ثقافياً وعلمياً وصناعياً ومالياً، فخرّيجونا ووارداتنا وديوننا ومشكلاتنا تزداد يوماً بعد يوم – ولكنّ تغيير المواقف والمواقع ليس من شيمنا.
لقد قلنا منذ الخلافة الراشدية – وما زلنا قائلين – إن أسلوبنا في الحكم من أفضل الأساليب، بل الأسلوب الوحيد السليم، وكذلك فعلنا في فترة الأمويين والعباسيين والمتوكلين والمتواكلين. وكذلك نفعل في فترة العسكريين والفئويين والملكيين والجمهوريين والجماهيريين والمتجمهرين، فنحن عند كلامنا باقون.
ماذا نريد أكثر من ذلك؟ ننفّذ وصية أحد فلاسفة الصين (شانج شاو) فنلهو بما يهتم به الناس، ونهتم بما يلهون به. فنحن نأكل، ونشرب، ونلبس، ونتكلم، وننتخب، وننتحب، ونعمل، و” نحلم “.
يبدو أنني ذهبت في الحلم بعيداً، وقد يخيل لأحد أنني دخلت في عالم الهذيان. ولكنني إذا كنت أهذي فهل يمكن لأي مواطن أن يقول إن شيئاً مما قلته غير صحيح، من غير أن يخاف الحقيقة التي نتنفّسها أربعين مرة في الدقيقة عبر وسائل الاعلام المنتشرة أكثر من الرغيف؟ هل يستطيع أحد القول إن عالمنا العربي (بل وطننا العربي) ليس بخير، وإنه لا يعاني من فرط حريته، ومن وجع الديمقراطية الملفوفة بلافتات يمكنها أن تكسو سكانه شتاءين قارسين على أقل تقدير؟
وهكذا نجد أننا (لا) نعيش الازدواجية في الفكر وفي السلوك وفي السياسة. ولكنني أستغرب. لِمَ إذاً كلّ هذا التذمّر الذي يبديه بعض إخواننا من حياته على أرض الوطن!
ألا ينبغي لنا أن نستحي من التنكّر لنعم أولي الأمر المحدثين (بكسر الدال، وفتحها، ثم بكسرها وفتحها مع التشديد، وبالقراءات كلّها).
ألا ينبغي لنا أن نقف – هنا والآن – شاهدين على العصر، وشهداء له مردّدين: نحن بخير.. اللهم فاشهد؟!..