الحوار والنقاش والتفاوض عناصر أساسية في العمل السياسي، خصوصا بين المختلفين. وبوصفي باحث سوري معارض ومستقل، فإنني من حيث المبدأ لا أرى ما يمنع النقاش وتبادل وجهات النظر وتقديم الملاحظات النقدية لأي فريق سياسي سوري في لقاءات مباشرة، باستثناء نظام الأسد والجماعات الدينية المسلحة.
بالنسبة لمؤتمر المسار الديمقراطي الذي انعقد في بروكسل يومي 25 و 26 تشرين الأول 2024، فقد صدرت الدعوات باسم اللجنة التحضيرية للمؤتمر، وليس باسم أي جهة سياسية أو حزبية من الأطراف المشاركة، علما أن تغطية التكاليف كان من إحدى الجهات المشاركة (مجلس سوريا الديمقراطية/مسد أو الإدارة الذاتية) التي تسيطر على جزء من الأراضي والموارد السورية، أي أنها أموال سورية. والهدف المعلن للمؤتمر محاولة تجميع جهود قوى وشخصيات ديمقراطية سورية، ليكون لها صوت وتأثير في الحل السياسي مستقبلا، بعيدا عن ثنائية النظام وتشكيلات المعارضة المتأسلمة والمرتهنة لتركيا وسواها.
ناقش الحضور في اليوم الأول مسودات وثائق المؤتمر بالتفصيل، وجرى تدوين الملاحظات واقتراحات التعديل، ليصار إلى تعديل الوثائق في ضوئها. وتضمنت مداخلات عديدة انتقادات وتساؤلات تتعلق بمسد والإدارة الذاتية، على مستويات مختلفة، منها طبيعة العلاقة مع حزب العمال الكردستاني، والموقف من نظام الأسد، ومن الولايات المتحدة، فضلا عن التقارير الحقوقية عن تجنيد قاصرين وقاصرات.. وغيرها. لكن ممثلي الإدارة الذاتية ومسد لم يجيبوا على معظم النقاط، بذريعة ضيق الوقت والالتزام بالبرنامج الرسمي للمؤتمر، على أن يجري نقاش سياسي مفتوح حول جميع القضايا في اليوم الثاني.
شهد اليوم الثاني مشكلتين أضرّتا بالمؤتمر، من وجهة نظري، الأولى أن النقاش المفتوح لم يحصل بسبب التركيز على انتخاب أمانة عامة تمثل المؤتمر، والمشكلة الثانية تكمن في الانتخابات نفسها، فقد ظهر من خلال الترشيحات وتوجهات (أو توجيهات؟!) قسم كبير من الناخبين أن عقلية التكتل والولاء الحزبي ما زالت طاغية، وهو ما انعكس في تركيبة الأمانة العامة المنتخبة، حيث حاز أعضاء من مسد والإدارة الذاتية على غالبية المقاعد، وهذا لا يخدم هدف المؤتمر الأساسي، لجهة توسيع تمثيل الطيف الديمقراطي وليس تكريس حضور فريق بعينه، وهذا بتقديري ليس في صالح “المسار الديمقراطي”.
ما من شكّ أن قبول النقد والرأي الآخر من مقتضيات التفكير الديمقراطي، لكن اللافت أن الهجمة الشرسة على المؤتمر والمنظمين والمشاركين/ات بدأت قبل انعقاده، ثم رافقته واستمرت بعده، بأسلوب غلب عليه التخوين ولغة الشتائم والاتهامات المجانية. في أحسن الأحوال ذهب بعضهم إلى أسلوب الوعظ والوصائية على المشاركات والمشاركين، لتعليمهم ما يجوز ولا يجوز!!! وهذا كله ليس من النقد في شيء.
فإذا كان الجلوس مع ممثلين عن مسد أو الإدارة الذاتية “تهمة”، بسبب شبهة العلاقة بين بعض أعضائها وحزب غير سوري، فالتهمة نفسها مردودة وأكثر على مروجيها، من الذين ارتضوا أن يكونوا بيادق في أيدي قوى خارجية بدعوى الرابطة الدينية، على حساب المصلحة السورية. وهنا أتساءل، هل بقيت جهة سياسية سورية لم تطاولها شبهات واتهامات، ولم يشنّع عليها خصومها، حتى نتمكن من التحاور معها في شأن بلادنا ومستقبلها؟
أقول قولي هذا، وسوريا من وراء القصد..