د. يحيى العريضي يكتب.. بيدرسون وسَرْدِيّته الدامية والمُضجِرة التي يُعيد قراءتها على مسامع السوريين

بيدرسون وسَرْدِيّته الدامية والمُضجِرة التي يُعيد قراءتها على مسامع السوريين
ملكية الصورة: الإنترنت
د. يحيى العريضي

سأل خبيثٌ حكيماً: كيف تُعَرِّف الحياة؟ أجاب الحكيم: “الحياة كما لو أنني على فراش المرض؛ يأتي ثقيل دم مملّ، لزيارتي؛ ويبدأ بقراءة رواية مملّة مُضجِرة. أسمعها، فتتفاقم حالتي. وما أن يفرغ من قراءتها، حتى يسألني: ما رأيك أن أقرأها لك مرة أخرى؟ وهذا هو تعريف الحياة بالنسبة لي”. وهذا حالنا مع السيد “غير بيدرسون” المبعوث الأممي للقضية السورية، الذي قدّم بالأمس إحاطته الـ… لمجلس الأمن، والتي لم يلتفت إليها سوري حتى المتصيدين للرجل، أو الحاقدين عليه؛ لأنه يستمر بإسماعنا الأسطوانة المشروخة إياها.

ما دفعني للتدقيق بسَرْدِيَّة هذا الرجل، أنها أضحت مساهِمةً بتدمير مصير شعب، ولم تَعُدْ فقط مُمِلّة ومُضجِرة للروح. الجديد في رسالته الأخيرة تعدُّد مستويات المعاناة السورية؛ فهي الآن إنسانية وسياسية وعسكرية وأمنية واقتصادية وحقوقية. وفوق هذا هي عميقة وشديدة التعقيد ومتسعة النطاق. وبهذا يوصل السوريين إلى حالة من الإحباط المطلق، بحيث يغيب عنهم جوهر قضيتهم، ومَن وراء مأساتهم.

يُدرك الرفيق “بيدرسون” أن العذابات الإنسانية السورية وراءها بشكل أساسي منظومة الاستبداد الأسدية؛ وبمجرد زوال هذه المنظومة يعود السوري إلى إنسانيته. والمعاناة سياسية؛ لأن تلك المنظومة تنسف أي حلّ سياسي. وهي عسكرية، لأن المنظومة جزءٌ من الحالة العسكرية المحتلة لسورية. وهي كذلك أمنية؛ لأن لا أمان لسوري بوجودها. واقتصادية؛ لأن المنظومة نهبت البلد ورهنته لِمَن يحميها. ومؤكد أنها حقوقية، فبوجودها يضيع الحق. وفي كل ما سرده الرجل لم يأتِ على ذكر الفاعل أو المتسبب كما يمكن أن يُقال في أزمة أو جريمة أو كارثة بهذا الحجم؛ ولكنه كالعادة اختار عن سابق إصرار وتصميم أن يُجَهّل الفاعل.

والأخطر من ذلك سَعْي هذا المخلوق لإيجاد ذرائع وأسباب أخرى للكارثة. وأول ما تفتّق عنه ذهنه هو أن السوريين منقسمون حول مستقبلهم، وهذا نتيجة وليس سبباً للكارثة، حيث يُغفِل السبب الحقيقي لانقسامهم ناسياً أو متناسياً ذاك الذي قتل مَن هتف “واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد”، وهو ذاته الذي قال بـ “مجتمع متجانس” بعد أن اقتلع أكثر من نصف سكان سورية من بيوتهم. كما يغفل دور الجيوش الخمسة (التي يذكرها) في هذا الانقسام.

يتحدث بيدرسون عن “حقوق الإنسان التي تُنتَهَك” في سورية، ولكنه يغفل مَن زرع المثل والقدوة في انتهاكها، ويرفض تسميته؛ ثم يُقحم عبارة “جميع أنحاء سورية”، حتى يعمم الحالة ويشتت الأنظار عن منطقة بعينها، ليقول: إن الانتهاك عام، وليس في منطقة الأسد.

عند تطرُّقه للدمار والحرب والفساد والانهيار المالي، يربطها بإضافته العقوبات وجائحة كوفيد وأوكرانيا لخلط الأوراق، وحرف الأنظار عن الفاعل والمسبب الحقيقي للدمار والانهيار والحرب والفساد.

وبالانتقال إلى أساس مهمته في العملية السياسية، يبشرنا السيد بيدرسون بأنه سيلتقي الكزبري وغيره؛ وكأن لهؤلاء من أمرهم شيئاً. وهذا استخفاف ليس بعقول السوريين، بل احتقار لعقل كل مَن يسمع. بيدرسون لم يَعُدْ إلى المرحلة صفر من المهمة التي أُنيطت به، بل أصبح في مرحلة متقدمة من تضييع حق السوريين بمرسوم أممي؛ وتحديداً في مشروعه المسمى “خُطوة بخُطوة”.

ليَزُرْ بيدرسون مَن يشاء ويلتقي مَن يشاء؛ ولكنه ليس على درجة من الغباء كي لا يعرف أن القوى الفاعلة في القضية السورية، والتي يحرص على زيارتها، تريد حلاً مفصّلاً على قياس المتسبب بالمأساة.

المفارقة العجيبة تكمن بالعبارة السحرية التي يرددها بيدرسون وكل مَن يذكر العملية السياسية السورية: “وفقاً لقرار مجلس الأمن 2254”. لقد ملَّ السوريون، أصحاب القضية، من هذه العبارة المخدرة. فلو كان السيد يحترم نفسه كمبعوث، لوضَعَ النقاط على الحروف، وتمترس عند التطبيق الحرفي لكل ما ورد في هذا القرار، رغم رخاوته؛ وأوقف بكائياته الزائفة على المأساة السورية.

يتحدث بيدرسون عن الانخفاض بمنسوب إطلاق النار، وكأنه منّة وكرم أخلاق؛ ولكنه يُغفل أن ما تبقى لمنظومة الاستبداد ليس إلا ميليشيات غير قادرة على الاستمرار بالقتل؛ فهي منشغلة بتدبُّر عيشها تعفيشاً وابتزازاً وسرقةً؛ وإيران المخنوقة بتململ شعبها من فساد الملالي؛ وروسيا الغارقة في الوحل الأوكراني إثر مغامرة بوتين. الأمر الحربي المستمر هو القصف الإسرائيلي؛ والذي يسميه بيدرسون بوضوح الفاعل؛ حيث يعرف صاحبنا أن ذكره للفاعل لن يقدم أو يؤخر. أما القصف الذي لا يذكر فاعله فهو الإذلال والإفقار ومفاقمة العوز لمن هو تحت نير منظومة الاستبداد؛ فهذا لا يرى حاجة لتحديد فاعله.

أما ذكر بيدرسون لـ”إيصال المساعدات”، فهو أمر لا علاقة له به؛ بحكم أنه موضوع ابتزازي تمارسه روسيا التي يداريها ويغازلها لإبقائه في وظيفته. يُضاف إلى ذلك حديث الرجل عن الفقر وانهيار معدلات الأمن الغذائي. وبهذا نحيله إلى داعمي النظام روسيا وإيران اللتين تشترطان بيع ما تبقى من سورية لهما، كي يزوداه بالوقود؛ فلا مانع من بعض الزيارات المكوكية للبلدين.

عند ذكر بيدرسون للجنة الدستورية، يشعر المرء أن هذا الرجل لم يبقَ لديه ذرة خجل؛ فحتى اللحظة هو وهي في النقطة صفر؛ ولكن هدف الإصرار معروف، ويتمثل بإعطاء المزيد من الوقت لمنظومة الاستبداد، علّه يُعاد تكريرها، عَبْر تمرير كذبة “الخُطوة بخُطوة”.

اعتادت العرب على استعمال تعبير مأفون“، لوصف مَن يفعل أقل بكثير مما يفعله المبعوث الدولي حالياً، وكانوا يريدون به نعت ”ناقص العقل، ضعيف الرَّأي الذي لا تصدر عنه حكمةٌ ولا واقعيّةٌ ولا حزم“ ، أما علم النفس الأمريكي فيستعمل الكلمة للإشارة إلى من يُلاحَظ عليه تخلُّف عقلي بسيط.

وبناءً عليه تبقى إستراتيجية المأفون الدولي الذي ابتُلي به السوريون تزعم أنها تلامس شغاف أرواح السوريين المكلومين بالتذكير بالمعتقلين. واعتقد جازماً أنه يعرف أنهم ربما لم يعودوا في عداد الأحياء؛ حيث يكفي بيدرسون رؤية 55 ألف صورة لمن قضوا تحت التعذيب، ليعرف مصير المعتقلين. وهنا لا بد من شيء من الخجل.

لا يفوت بيدرسون الحديث عن “البيئة الآمنة” لعودة اللاجئين، كما وردت في القرارات الدولية. ولكنه يدرك أنه لا يأتي بجديد في هذا الصدد، وما بمقدور أممه المتحدة فعل شيء تجاهه؛ فالأمر بيد مَن يعمل لديهم، ويستخدمونه غطاءً لمخالفاتهم للقرارات الدولية. وهنا لا أدري كيف يشعر الرجل عندما يعرف أنه يُستخدم كأداة للجريمة واستمرارها.

أخيراً، يريد الرجل إشراك “كل السوريين” في العملية. ولا أجد نفاقاً يفوق هذه التُّرَّهات؛ فهو لو استفتى السوريين الذين يتباكى عليهم، لقالوا له: “فقط؛ حِلْ عنا…، ولو كان عندك ذرة ضمير، لسَّميتَ الأمور بمسمياتها، ووفرت علينا الكثير من المواجع والدماء.

ننتظرك في إحاطة لمجلس الأمن تضع القرار الذي تسبّح به إياه تحت الفصل السابع. وإنْ عجزت عن فعل ذلك، فقط تواصل مع الأخضر الإبراهيمي ليخبرك بما قاله له الأسد مباشرة في عام 2012 عن أنه لن يستجيب مهما ضغطت عليه الأمم المتحدة، وأنه مستعد لتحمُّل ثمن ذلك حتى لو كان إزهاق أرواح 100 ألف سوري وسورية آخرين.

وان استمريت على هذا المنوال، فلست أكثر من مرتزق رخيص”. هذه رسالة السوريين سيد “بيدرسون الأسد بوتين الخامينائي”.

المصدر: نداء بوست