ذاكرة مدينة.. سلوى زكزك تكتب: دمشق، شامتي ذات العبق

ذاكرة مدينة.. سلوى زكزك تكتب: دمشق، شامتي ذات العبق
مصدر الصورة: صفحة الكاتبة في فيسبوك
سلوى زكزك - تفاصيل برس - دمشق

زاوية يفتح فيها موقع "تفاصيل برس" ذاكرة السوريين على مدنهم وقراهم، ليكتبوا عنها، وينبشوا ذكرياتهم..

تستفيق دمشق على وقع أصوات عمال التحميل في سوق الهال، سيارات ممتلئة بالخضار والفاكهة، مرج ممتد من الألوان الساطعة، في الرابعة فجرا تمنحك دمشق فرصة رؤية بزوغ الفجر وسماع أصوات الآذان وبحرا متماوجا من الألوان.

لكن صخب المدينة يؤجل الالتحام بالدمشقيين، النهار طويل و(بكير ع التعب)!

 
في الجهة المقابلة للطريق الواصل نحو أطراف المدينة، وربما نحو مدن أخرى تفوح رائحة الخبز، وخبز دمشق مختمر منذ الليلة الماضية، لقد حان موعد إنضاج الخبز.

الطوابير التي تنتظر خبز الصباح قبل الذهاب للعمل أو للمدرسة، قبل وجبة الإفطار، تترقب الخبز بتعب كبير، ساعات قد تطول وأهل المدينة ينتظرون خبزهم، لا يضعونه فورا في الأكياس.

حكاية فرد الخبز على رفوف معدنية أو على حواف الأبنية وحتى على السيارات حكاية دمشقية خالصة! وبعد الفرد والتبريد يتم فلق الرغيف إلى طبقتين كي تناسب هدفها بإعداد لشطائر المدرسة وزوادة العمل.

في الصباح وفي المساء، يرتبط الخروج الأول من المنزل والعودة الأخيرة حكما بأكياس الخبز، الخبز عشق السوريين وجرحهم، أمانهم وتعبهم.


في مداخل الأبنية قد تصادف امرأة جلست جانبا لترضع طفلها، جاءت به من قرية قريبة وربما من مدينة بعيدة، وقد تفترش عتبة درج أحد الأبنية لتغير له حفاضه وملابسه بانتظار موعد مع الطبيب أو مع المحامي أو في المحكمة.


الانتظار الطويل هو من صفات المدن الكبرى، وتنوع المقاصد وأصحابها يمنح دمشق عبئا واسما تشريفيا مضاعفا، وكأنها الحل لكل المصاعب، أو الجواب الناجع على كل الأسئلة.


دمشق ذكية ومتطلبة، لا تمنح الراحة بالمجان، عليك أن تحبها، أن تحفظ شوارعها وأسماء أحيائها وخارطة توزع ووجهة وسائط النقل المختلفة والتي تتحول منذ استعمالك لها إلى مدينة موازية، بيت متنقل ينقلك إلى حيث الأمان، والأمان لا يرتبط بالنهايات فقط ولا بحسن سير معاملاتك أو زياراتك، بل بالشعور بأنك موجود فعليا في الشام.

تعبر أزقتها وتراقب تفاصيلها من موقع ثابت ومضمون، هنا في وسائط النقل تهجرك غربتك وخوفك من الضياع المحفور على وجهك، لأنك ستجد الكثيرين من أهل دمشق ممن  سيدلونك على عنوانك المقصود، سيسهب بعضهم بالشرح التفصيلي وطمأنتك بتأكيدهم بأنهم يعرفون المكان جيدا وتتأكد من أنك وقعت في أيد أمينة ولن تضيع أبدا ، بل قد يرافقك أحدهم إلى وجهتك وهو يقول لك بزهو وتعاطف( خليك بتنزل معي ، أنا رايح لنفس المكان!) هي دمشق مساحة ممتدة من الخوف والضياع واللقاء والنجاة والدهشة. 


دمشق المتناقضة حتى حدود الذهول، بيوت عتيقة، وجوه مرهقة، أبنية فارهة. فاقة أهلها المتزايدة محفورة على العيون وفي الكلمات القليلة المقتضبة للرد على أسئلة باتت أجوبتها فخاخ وإمعان في الفراغ واللا جدوى، سيارات حديثة العهد لا تتناسب مع بلاد الحرب، وملاكّها غرباء في الروح عن دمشق الغامرة المسربلة بالتعب والوجد والشكوى.. ازدحام خانق ومساحات فارغة حتى من القطط.

دكاكين ومحال مغلقة تيبس عليها الغبار من طول غياب أصحابها ومن افتقادها للمشترين والزوار. أحياء كاملة تخالها شبه فارغة وأنت تحصي أعداد البيوت المهجورة منذ سنين طوال، كلهم هاجروا! ومن تبقى من كبار السن مات وحيدا بلوعة الغياب وبتأثير تفاصيل العيش الصعب، حبات من النارنج ساقطة تحت أشجاره شبه اليابسة، ليمون قاس ومبقع وقع من شدة الجفاف ومن قسوة غياب الأصحاب والأيادي الممدودة للقطاف صباح أيام العطل ليصير الليمون عصيرا أساسيا في وجبات الفول والفتة والمسبّحة والفلافل والمخللات.، هذا هو الفطور الشامي الذي بات تراثا لا يفنى، بل يتجدد لكن كاليتيم خارج حدود الشام.


لا يمكنك الشعور بالأمان إذا لم تسلم روحك لدمشق فتنعشها بلهفة احتياجك، ترد لك دمشق انتعاشها بفتح أبوابها المغلقة على أسرار غير منظورة وغير مرصودة لكنها مفرحة، كأن تصادف فجأة على إحدى بسطاتها الشعبية لعبة رخيصة لابنك، حفّارة كوسا مستحدثة ومطورة لتحفر كوسا أكثر بوقت أقل..

كل المفاجآت في دمشق مفرحة رغم بساطتها، كل مفاجآتها علامات فارقة في الفرح أو في الخيبة لا فرق! فالمدن نهمة وتطمع بالمزيد من الانبهار والمزيد من الأسئلة التي تشكل حكايات متنوعة ومتجددة عند كل سؤال أو بعد كل عودة منها وإليها. 


دمشق، تشظت بنار الغلاء وانعدام الأمان، وأفقُ دمشق محاط بالغربان، والمدن تكره الغربان، في دمشق تتجمع الغربان بعيدا عن الناس، يخافها أهل دمشق رغم ذكائها، وكلما تداعت قوة دمشق خاف أهلها من الغربان أكثر، ومازال الحمام يهدل في ساحاتها التي صارت وجهة للعب الأطفال وانشغالهم بإطعام الحمام من بقايا الخبز اليابس، يصر الدمشقيون على إنعاش الحياة حتى في خرابها العظيم، يترك أهل دمشق طيور اليمام وهي تبني أعشاشها على زوايا شرفاتهم وحواف نوافذهم حتى يفقس البيض ويطير صغارها.


يتمسك الدمشقيون بما تبقى لهم من حياة، يتقاسمون المواد المتاحة وكأنها بحر وافر من الخيرات، قد تستفيق لتجد على باب بيتك زائر صباحي بيده ربطة خبز أو كيلو من الأرز أو السكر، تقلصت سكبات الجيران من وجبات طبخهم اللذيذ، وتراجعت بشدة الدعوات العائلية لتناول الطعام وحتى للزيارات لشدة ضيق ذات اليد ولغلاء كلفة المواصلات بل وانعدامها بشكل حاد. وانعدام التوصل ليس مجرد خبر في نشرات الأخبار، إنه ليس خبرا للتداول، بل هو صرخة مدوية تشي بقتامة الواقع المعاش، توصيف ضمني للحياة الحقيقية بالغة القسوة والتقشف العصية على النكران، في دمشق الحياة متشققة كجلد ميت.


دمشق المنفتحة على الجميع، المنكفئة عن الجميع، الصامتة بإرادتها ورغما عنها، الناطقة بكل عذابات أهلها وأفراحهم وذكرياتهم، تصنع من أرغفتها الطازجة زادا لأهلها الأوفياء، وتلوّن الفضاء بألوان فاكهتها وخضرواتها، لدمشق لون واحد يليق بها، لون الحكايات الشيقة رغم شقائها خلف الأبواب، ولون الأحلام المرصودة للاستجابة رغم تعثر الأجوبة، للرضا والتناغم رغم أنف الغياب.


عبق دمشق حكايات من بشر وحجر وشجر، هي "الضوع" الزاحف بين الجذور رغم حرّاس الغياب وسطوة الغربان.