مريم الإبراهيم تكتب.. إدلب تتحدث
زاوية يفتح فيها موقع "تفاصيل برس" ذاكرة السوريين على مدنهم وقراهم، ليكتبوا عنها، وينبشوا ذكرياتهم..
إلى أولئك الذين اتخذوا من الشاشات مرجعيةً للحقيقة، إلى فلاسفة السلام الأعمى، ودعاة الإنسانية العوراء، إلى من تلقوا ثقافتهم من الأفلام و مسلسلات بوليوود، ومن ومضات الإنمي العاطفية ومقاطع تيك توك السريعة.
اقلبوا صفحات التاريخ جيدًا، علّكم تميّزون الليل من النهار، علّكم تدركون أن للحقائق وجهاً آخر، أقسى وأوضح من الصورة المضللة التي عُلقت في عيونكم.
في إدلب، تنهار الأحلام على أرصفة الموت المتكرر، بين أنقاض البيوت المهشمة والأرواح المبعثرة كأشلاء، هنا حيث تنام الأرض على وجع قديم يتجدد، وتصحو كل صباح على جثث أطفالها المدفونين تحت الركام، تعبت إدلب، وهي تحدق في الفراغ المحيط بها، فلا ترى سوى صورتها الممزقة في مرآة العالم.
تعبت من الصراخ في فضاء صامت، فلا تسمع سوى صدى حروفها المبتورة، هي تصمت أحيانًا، ليس خوفًا من العدو، بل لأنها لا تجد أحدًا يسمع غير همس الريح الحزينة التي تلف مدينتها.
إدلب، وهي تذبح في الفراغ، لا تبصر إلا دمها يلطخ ذاك الفضاء، تحاول أن تقنع نفسها أن الذين ينصرونها، وإن قلّوا، فهم كثر بقلوبهم، لكنها تعلم كما يعلم الجميع، أن الحقيقة غير ذلك، فالكثير الذين تراهم على الشاشات يبدون كالزبد المتطاير، أصواتهم كثر، لكن أفعالهم شحيحة، أصوات ضجيج دون فعلٍ حقيقي.
تعبت إدلب من الموت، كل يوم تفقد أمًا، وأبًا، وطفلًا، وجسدًا صغيرًا كان يحمل حلمًا، تعبت من الخوف الذي يقتات على أنفاسها، ومن الركض الذي لا ينتهي بحثًا عن ملجأ، تعبت من الجوع الذي يخنق حلقها، والعطش الذي يحرق أعماقها، هي كفاحٌ مستمر، وصبرٌ يتحطم على أبواب القهر، لكن حتى هذا الصبر يتآكل أمام وحشية القصف والدمار.
تلك المدينة التي أصبحت شاهدة على الفوضى والدماء، التي احتضنت شعب سوريا من جميع المناطق، تعبت من النظر إلى عالم أعمى لا يبصر جراحها، من الوقوف في انتظار مساعدةٍ لا تأتي، ومن الرقاد على أطلال بيوتها المحطمة، تعبت من الجَلَد الذي يفرض عليها، ومن الجزع الذي ينهش أرواح أبنائها، تعبت من الصمود الذي أصبح شعارًا يرفعه من لا يعيش المعاناة، ومن الانهيار الذي يلتهم قوتها كل يوم.
في هذه إدلب المنسية، تعب الأمل، لكن الأحرار لم يتعبو، هنا من لا يزال يحاول، يحفر في الظلام بحثًا عن ضوء، يحمل روحه على كفه، مؤمنًا بأن السبيل إلى النجاة ليس مستحيلًا، إنهم قليلون، لكنهم هنا، لا يموتون حتى يجدوا السبيل.
كانت تسمى على عهد "حافر وخليفته المعتوه" إدلب المنسية..ليتها بقيت كذلك.."تذكرونا".."تذكرونا كتير"..