دانة سقباني تكتب عن "جادة الخنساء" بدمشق.. الكثير من الحنين والذكريات
زاوية يفتح فيها موقع "تفاصيل برس" ذاكرة السوريين على مدنهم وقراهم، ليكتبوا عنها، وينبشوا ذكرياتهم..
بعد الانتهاء من عملي في الغربة، وأثناء عودتي إلى ما يُطلق عليه اسم منزلي، أمر عادةً من حي يشابه آخر في وطني.
حي يبدو كأنه من ستينيات القرن الماضي، بأبنيته القصيرة، وجدرانه المحجّرة، ومداخله الواسعة، إذ غالبًا ما يوجد ممر طويل مكشوف يصل الشارع بمدخل البناء.
أشجار الحي كثيفة وطويلة، وشارعه عريض وهذا ما يسمح للسيارات بالاصطفاف بكل راحة. في هذا الحي توجد مدرسة قريبة، وتصادف لحظة مروري فوحان رائحة ما لذ وطاب من المطبوخات وهي تخرج من نوافذ المطابخ، فحتماً ستشتهون تذوق تلك الأكلات حتى ولو كنتم متخمين.
أما ذاك الحي في وطني، فقد سكنه والدي مع جدي وجدتي حتى بلغ الثانية والعشرين حين تزوج والدتي. وبعد ذلك، ولمدة عشرين عامًا إضافية، كنا نذهب إليه أسبوعيًا، تحديدًا كل يوم جمعة، لنلتقيَ مع من نحب وتربطنا به صلة رحم.
منزل جدي كان واسعًا، يمتلك من الحب ما يكفي لتذكر تفاصيله حتى بعد الانتقال منه بنحو تسعة عشر عامًا. لطالما فاحت منه رائحة الياسمين الرمز الدمشقي الشهير، إذ امتلك المنزل شجرة تدلت من شرفته طابقين للأسفل وسُقيت بمياه نبع الفيجة (الأطيب والأفيد على الإطلاق).
وبالعودة إلى هنا أشاهد الأطفال يلعبون ويمرحون ويضحكون، أبتسم لهم على أمل ألا يكون مستقبلهم مليئًا بحرب تلوح لنا بالاقتراب.
هناك في وطني، سافر الأطفال مع أهاليهم لجوءًا أو نزوحًا أو هربًا، وبقي الأجداد في الحي ينتظرون قدومهم. وبالحديث عن الحي.. أتعلمون اسمه؟ جادة الخنساء.
لو بحثتم عمن هي الخنساء، ستجدون في محركات البحث (ومن دون أي مجهود) أنها صحابية جليلة وشاعرة مخضرمة، اشتهرت بصبرها وحسن تصرفها حين تلقت خبر استشهاد أولادها الأربعة "دفعة واحدة"، وكأن لسان حال الواقع يتحدث معنا ويرسل لنا إشارة.
ربما ليست الصدفة التي جمعت أغلب أحياء دمشق وليس فقط جادة الخنساء على فقد أبناءها أيضًا دفعة واحدة، لم يبقَ فيه إلا كبار السن يعيشون ما بقي من العمر وهم يحلمون على أمل اللقاء بأولادهم وأحفادهم، ويأملون أن يحقق الجيل الجديد في بلاد المغترب ما لم يستطع في بلده، حتى ولو كان على صعيد "راحة البال" أو "الابتسامة".