بين الألم والأمل.. الاختفاء القسري جرح لا يندمل في قلوب النساء السوريات
في خضم النزاعات والحروب، يبقى الاختفاء القسري أحد أشد أشكال العنف الإنساني الذي يترك آثارًا عميقة ومستدامة في حياة من يعايشونه، خاصة النساء اللاتي يتحملن عبء الغياب المفروض عليهن بطرق تتخطى حدود القدرة الإنسانية.
إذ يتجاوز أثر هذا الاختفاء مجرد الفقد، فهو ينسج حالة نفسية واجتماعية معقدة، تتجلى في تحديات يومية تواجهها النساء اللاتي يجدن أنفسهن عالقات بين ألم الفراق وأمل اللقاء، وبين صمت المجتمع والأسئلة التي لا تجد أجوبة.
جريمة ضد الإنسانية
وفقاً للإعلان الخاص بحماية جميع الأفراد من الاختفاء القسري، الذي تبنته الجمعية العامة في الأمم المتحدة في قرارها رقم 133/47 بتاريخ 18 ديسمبر 1992 كإطار للمبادئ الواجب تطبيقها على جميع الدول، يُعرف الاختفاء القسري بأنه عملية القبض أو الاحتجاز أو الاختطاف القسري لأشخاص أو حرمانهم من حريتهم بأي شكل آخر من قبل موظفي الدولة أو أفراد ينتمون إلى مجموعات منظمة، أو عادية تعمل باسم الدولة أو بدعم منها، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، أو بموافقتها أو رضاها. ويشمل هذا الفعل رفض الكشف عن مصير أو مكان وجود الشخص المعني أو رفض الاعتراف بحرمانه من حريته، مما يحرم هذا الشخص من الحماية القانونية.
الشبكة السورية لحقوق الإنسان أصدرت تقريرها السنوي الثالث عشر حول ظاهرة الاختفاء القسري في سوريا لعام 2024، والذي كشف عن استمرار هذه الجريمة منذ بداية النزاع في عام 2011 حتى الآن. يوضح التقرير أنَّ ما لا يقل عن 113,218 شخصاً، بينهم 3,129 طفلاً و6,712 سيدة، لا يزالون قيد الاختفاء القسري.
وتشير البيانات المستندة إلى إحصائيات الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن غالبية الاعتقالات في سوريا تم تنفيذها من قبل النظام، حيث يتحول المعتقلون بعد اعتقالهم بفترة وجيزة إلى حالات اختفاء قسري. ويعزى هذا التحول إلى نمط منهجي يقوم به النظام السوري، ما أدى إلى أن تشكل حالات الاختفاء القسري حوالي 85% من إجمالي الحالات المسجلة. حجم ضحايا الاختفاء القسري يؤكد أن هذه الممارسات ليست فردية أو عشوائية بل هي منهجية واسعة الانتشار تطال عشرات الآلاف من المعتقلين، مما يصنفها كجرائم ضد الإنسانية.
وسجلت الشبكة وفاة 1,634 شخصاً مختفين قسرياً منذ عام 2018، دون تسليم الجثث أو الإفصاح عن أسباب الوفاة، كما أنَّ عام 2024 شهد استمرار عمليات الاختفاء القسري ضد اللاجئين العائدين من لبنان والأردن.
معاناة مستمرة.. جرح لا يندمل
أسر المختفين تعيش في معاناة نفسية متواصلة، وسط تساؤلات مستمرة حول مصير أحبائهم دون إجابات: هل مازالوا أحياء؟ وإذا كانوا كذلك، فأين؟ وكيف هي ظروف احتجازهم وأوضاعهم الصحية؟ هذه التساؤلات تثير في نفوسهم شعوراً دائماً بالخوف، حيث يدركون أنهم معرضون لنفس المصير وأن سعيهم للبحث عن الحقيقة قد يضعهم في مواقف خطرة.
إضافة إلى الألم النفسي، تواجه هذ الأسر تحديات اقتصادية حادة، إذ غالباً ما يكون المختفي هو المعيل الأساسي للأسرة، ومع تزايد الأعباء المالية جراء مصاريف البحث عن المختفي تتعاظم معاناتهم، وخاصة في ظل غياب أي مساعدة مادية نتيجة القوانين التي تشترط شهادة وفاة لصرف المعاشات أو تقديم أي دعم مالي، مما يترك هذه الأسر في وضع هش اجتماعياً واقتصادياً.
وتتحمل النساء بشكل خاص، عبء هذه التحديات الاقتصادية والاجتماعية، إذ غالباً ما يقع عليهن عبء البحث عن أفراد العائلة المختفين، لكن هذا السعي قد يجعلهن عرضة للمضايقات والانتقام والملاحقات.
إيمان، أم يامن، الشاب الذي اعتُقل عام 2013 حين كان في العشرين من عمره، تقول "تلك الليلة داهمت قوات النظام السوري منزلنا واعتقلت ابني، لقد كان يامن جزءًا أساسيًا من حياتي، وغيابه تحول إلى فراغ كبير في قلبي وحياتنا كعائلة. هذه الحادثة لم تؤثر فقط على استقرار أسرتنا، بل جلبت معها الكثير من الصعوبات النفسية والاجتماعية."
تكمل: "في البداية عانيت كثيرًا نفسيًا غياب يامن أثر على دوري كأم وعلى تماسك الأسرة، ومع مرور الوقت شعرت أنني يجب أن أقوى لأجله، ولأجل عائلتي. كان من المهم بالنسبة لي أن لا ينطفئ الأمل في العثور عليه، حتى إن كانت نتائج البحث محدودة."
وتتابع: "بدأت رحلتي في البحث عن يامن بشجاعة وإصرار رغم التحديات التي واجهتها.
خيبة أمل
توجهت إلى المنظمات المعنية بقضايا المعتقلين والمختفين قسرياً، أملاً في الحصول على أي معلومة عن مصيره، بعد محاولات عدة تواصلت مع إحدى هذه المنظمات التي ساعدتني في توثيق قضيته، مما أعطاني أملًا جديدًا بأن يكون ابني ما زال على قيد الحياة، خاصة بعد أن أكد لي أحد الأشخاص أنه شاهده."
"لكن لم تكن تجربتي مع جميع المنظمات إيجابية، شعرت بخيبة أمل من بعض المنظمات التي يبدو أنها تهدف فقط إلى جمع المعلومات لتحقيق مكاسب مادية، دون أن تقدم دعمًا حقيقيًا لنا كذوي المعتقلين."
تضيف إيمان: "للأسف، لا توجد قوانين تدعم عائلات المعتقلين أو تساعدنا في الحصول على حقوقنا، حيث نواجه مخاطر متعددة. الأعباء المادية والنفسية والاجتماعية تزداد علينا في ظل غياب الدعم القانوني والاجتماعي، ورغم كل هذه المعاناة، أتمسك بالأمل في أن أجد يامن."
أما آمنة، فقد اختفى زوجها في 26 مايو 2013. تصف تجربتها بقولها "كان لاختفاء زوجي أثر كبير على حياتي ودوري كزوجة وأم، شعرت بفقدان جزء من هويتي. هذا الغياب خلق حالة من عدم الاستقرار في حياتي وزاد من الضغوط النفسية التي أتعرض لها، حيث أصبحت أتحمل المسؤولية وحدي عن أسرتي.
تابعت آمنة: "واجهت العديد من التحديات في ظل غياب زوجي، على الرغم من أنني حاولت التكيف إلا أنني ما زلت أعاني من مشاعر الحزن والقلق، حاولت البحث عن معلومات حول زوجي، لكن كلما سألت، كانت الأخبار كاذبة وغير دقيقة. لا زلت أطلب أي خبر عنه، لكن هذه المحاولات كانت محبطة للغاية. اعتمدت على محامٍ لمحاولة الحصول على معلومات، ولكن حتى الآن لم نحصل على أي شيء يبعث على الأمل."
وتختم حديثها بالقول: "من الضروري أن يتم توفير دعم مستدام من قبل منظمات المجتمع المدني، باللإضافة إلى تحسين النظام القانوني لمساعدتنا في معرفة مصير أحبائنا. إن الألم الذي نشعر به ليس مجرد فقدان شخص، بل هو فقدان للهوية والأمان، وآمل أن يظل صوتنا مسموعًا."
أصوات غير مسموعة
في سياق ما تم عرضه، تظل نساء سوريا في مواجهة أعمق آلام الوجود، حيث يشكل فقدان الأحبة جرحًا لا يلتئم، يتخطى تأثير هذا الاختفاء حدود المعاناة الفردية ليغمر مجتمعاتهن في ظل غياب العدالة والمحاسبة. إن تلك اللحظات التي يمر بها أهالي المفقودين، وبالأخص النساء، ليست مجرد معركة ضد الزمن، بل هي صراع وجودي يمس أعماق الهوية والأمان، ويُسجل على مرآة التاريخ وصمة لا تمحى. في هذا الواقع، يصبح الصوت المنادي بالعدالة هو الأمل الوحيد الذي يبقي الأمل حيًا، فصوت هؤلاء النساء هو صدى الأرض التي لا تقبل الاستكانة.
وإن لم يكن هنالك تحول حقيقي في المنظومة القانونية والاجتماعية، فإن الظلم سيبقى كالحلم الموجع، الذي يبني جدرانًا من العجز على جثث الحقائق المطمورة.
لذا، يبقى السؤال مطروحًا: هل ستظل الأرض تتجاهل أصوات هؤلاء الذين اختاروا أن يكونوا أبطالًا في معركة الذاكرة؟ أم أن صرخاتهن ستصل إلى آذان من يستطيع إعادة بناء الأمل؟