كتاب "الدين والدولة في سوريا" بحث في الجماعات والشخصيات الدينية في دمشق وحلب

كتاب "الدين والدولة في سوريا" بحث في الجماعات والشخصيات الدينية في دمشق وحلب
ملكية الصورة: الإنترنت (تعبيرية)
تفاصيل برس - مصطفى عباس (باريس)

 

من المهم معرفة تاريخ العلاقة بين العلماء والمشايخ والسلطات حتى نعرف كيف وصلنا إلى الحال الذي نحن عليه اليوم، في منطقة يعتبر الدين أولى أولوياتها، وهذا ما يحاول كتاب " الدين والدولة في سوريا.. علماء السنة من الانقلاب إلى الثورة" للباحث البلجيكي توماس بيريه وترجمة حازم النهار، وصدر عن دار ميسلون، عبر رصد أهم رجال الدين والجماعات في كل من دمشق وحلب، منذ سيطرة البعث على الحكم حتى قيام الثورة عليه عام 2011 وكيف تعاملوا مع السلطات الحاكمة وكيف عاملتهم.

دراسة ميدانية وهذا الكتاب يمكن تصنيفه كدراسة ميدانية اقتضت من الباحث أن يعيش في سوريا بين 2005 و2008 ويخالط علماءها، ويعطي في بعض الأحيان انطباعاته الشخصية عنهم، التي قد يوافق عليها مريدو شيخ ولا يوافق عليها آخرون، ولكن يبقى الباحث من خارج دائرة الاصطفاف بين الجماعات، وبالتالي يمكن تصنيف آرائه بالموضوعية في كتاب يقدم إضافة مهمة إلى المكتبة السياسية السورية. وفي هذه المقالة سأضيئ على بعض النقاط الواردة في الكتاب.

 

تصحيح لبعض النقاط يقول بيريه في المقدمة إن كتابه يهدف لتصحيح عدد من النقاط، أهمها أن نظام البعث العلماني الذي يسيطر عليه العلويون، لم يتمتع بأي شكل من أشكال الشرعية لدى أهل السنة، رغم أنه بنى شراكات غامضة مع جماعات وشخصيات دينية بارزة، بعضها كان يتمتع بمصداقية لدى السوريين، النقطة الثانية: الميل إلى المبالغة في قدرة النظام في الهندسة الاجتماعية وإعادة تشكيل رجال الدين السوريين، بعد انتفاضة الإخوان عام 1982. بدر الدين الحسني كل العلماء الدمشقيين منذ عصر الانتداب يشيرون إلى أنهم من تلاميذ المحدث الشيخ بدر الدين الحسني، الذي أحدث نهضة علمية في دمشق، وأسس تلميذاه علي الدقر وهاشم الخطيب معهد الجمعية الغراء عام 1924 للحد من تاثير المدراس التبشيرية، أما في حلب فيعود تاريخ نهضة العلوم الشرعية إلى تحديث المدرسة الخسروية عام 1922. في حين تم تأسيس كلية الشريعة على يد مؤسسي جماعة الإخوان المسلمين عام 1954، وهم مصطفى السباعي ومصطفى الزرقا ومحمد المبارك ومعروف الدواليبي، الاثنان الأولان خريجا الأزهر والاثنان الآخران خريجا جامعة السوربون، ومنذ أواسط الستينات اضطر غالبية مؤسسو الكلية للهروب من سوريا، فيما جاء جيل جديد من المدرسين الأزهريين، على رأسهم محمد سعيد رمضان البوطي، الذي سيكون له تاثير كبير في سوريا الأسد.

الشيخان الرفاعي من تلاميذ الحسني الشيخ صالح فرفور الذي أسس معهد الفتح الإسلامي وحسن حبنكة الميداني الذي أسس معهد التجهيز الشرعي في الميدان، في حين أن أحمد كفتارو الذي أسس معهد أبو النور في ركن الدين، لم يكن من مريدي الحسني. ومن تلاميذ حبنكة عبد الكريم الرفاعي الذي أسس معهد زيد بن ثابت، واضطر نجلاه سارية وأسامة إلى الهروب من سوريا مع العديد من العلماء الذين رفضوا بطش النظام خلال الثمانينات، قبل أن يعودوا منتصف التسعينات ليكملوا ما بدأه والدهم، وليحققوا تقدماً سريعاً في الوسط الدعوي والخيري " لم يكن صعود جماعة زيد في القطاع الخيري خيار النظام، بل نتيجة للقدرة على جمع الأموال الخاصة والتي لا يمكن مقارنتها برجال الدين الأكثر خموداً". وهنا كان واضحاً في دمشق تحالف العلماء الذين هم تجار وحرفيون مع طبقة التجار المتوسطة العليا لدعم مشاريعهم الدعوية والخيرية.

لا تراتبية مناصب يشير الباحث إلى أنه ليس لدى علماء الدين السوريين، تراتبية إدارية، ومنزلة العالم تأتي من خلال الشهرة والسمعة التي حققها، وليس من خلال الترتيبات المؤسسية، فيما لبس العمامة يعتمد على الموافقة غير الرسمية بين العلماء ومريديهم. " بخلاف مصطفى كمال في تركيا وعبد الناصر في مصر، لم يسعَ البعثيون السوريون لدمج علماء الدين في جهاز الدولة: بل على العكس من ذلك، قاموا بإقصائهم عن ذلك عمدًا. نتيجة لذلك، تمتع رجال الدين بالاستقلال الاقتصادي والمؤسسي النسبي، على الرغم من مراقبة أجهزة الاستخبارات الخانقة لهم".

كفتارو! بوصول البعث إلى سدة الحكم تم وضع حد للأسر العلمية التي يتوارث أفرادها المناصب الدينية، فبعد إقالة المفتي أبو اليسر عابدين المنحدر من عائلة علماء دمشقية، تم تعيين أحمد كفتارو عام 1964، ابن عائلة كردية مهاجرة من تركيا، نتيجة مواقفه المؤيدة لحزب البعث، حيث أيد كفتارو عام 1957 مرشح البعث إلى مجلس الشعب رياض المالكي مقابل مرشح الإخوان المسلمين مصطفى السباعي، بل حتى إن بيريه يسمي كفتارو بـ " مفتي البعث"، ونتيجة لهذا كانت أغلبية رجال الدين الدمشقيين معادين لكفتارو.

متعاقدين باطنيين! "وما أن استتب الأمن، اختار النظام عدم الاعتماد على إدارته الدينية – التي تركها في الحقيقة حتى تتلاشى- بل على متعاقدين باطنيين اُختيروا لشدة ولائهم. ففي حلب، شهدت سنوات الصراع معارضة النظام الشديدة للمجتمع المديني القديم؛ وفي الحصيلة، عمل النظام على ترقية النبهانية، في وقت كان يجمع فيه حلفاء من العشائر في الأحياء "المدينية " لباب النيرب، مثل النبهانية. وأما شركاء الدولة المحظيين في دمشق، فقد كانوا الكفتارية، ومعهد الفتح، وسعيد رمضان البوطي. وكان خيار تعيين البوطي ضربة معلم من جانب الأسد، فقد كان ذلك العالم البارز الاستثنائي الذي تمكن من الحفاظ على صدقيته من خلال تصوير نفسه وسيطًا بدلاً من مدافع عن السلطة. وأبعد من استراتيجيته السياسة الشخصية، عكس صعود البوطي النفوذ المتنامي لشيوخ الإعلام، حيث مثل نجم الإذاعة، راتب النابلسي، نموذجًا مثاليًا لأوائل القرن الواحد والعشرين".

بين دمشق وحلب في المقارنة بين دمشق وحلب يشير الباحث إلى أن المشايخ الحلبيين عام 2006 هم أكثر شباباً ونحو ثلثهم ريفيون، عكس مشايخ دمشق الذين هم مدنيون بنسبة 93 بالمئة، ويرجع الباحث هذا إلى مشاركة حلب الفاعلة في أحداث الثمانينات، بينما دمشق يمكن وصف مشاركتها بالخجولة، حيث اقتصر الأمر على استنكار جماعة زيد " الأخوين رفاعي" للبطش الذي يقوم به النظام، بينما حلب كانت مشاركة عبر جماعة ابي ذر، التي أسسها أبو النصر البيانوني، والعديد من العلماء الكبار كعبد الفتاح أبو غدة.

السلفية السلفية الدعوية التي بدأت في سوريا مع الشيخ جمال الدين القاسمي، كانت تهدف إلى إصلاح المذاهب الدينية، ثم تطورت مع المحدث ناصر الدين الألباني، الذي تم اعتقاله عدة مرات ثم اضطر للجوء إلى الأردن، فيما بقي الشيخ الأخر عبد القادر الأرناؤوط في سوريا، في إقامة شبه جبرية إلى أن توفي عام 2004، ولكن الباحث بيريه يقول إن السلفية قد انقطعت بعد الأرناؤوط، وهذا الكلام ليس دقيقاً، مع وجود الدكتور مأمون الحموش، الذي بقي لفترة ليست بالقصيرة يخطب في مسجد الحسن بحي الروضة الراقي ويحضره مئات السلفيين.

دعاة إصلاحيون ولا يغفل الكتاب الحديث عن الإسلاميين الإصلاحيين كمحمد حبش ومحمد الشحرور، وشيوخ الإصلاح السياسي كمعاذ الخطيب وعماد الدين الرشيد، ليسرد بعضاً من سيرتهم والمشاكل التي وقعوا فيها. قبيل اندلاع الثورة السورية كانت علاقة النظام بمشايخه التقليديين بأسوأ حالاتها، بل حتى أن بشار لم يقم لهم عام 2010 مأدبة إفطار رمضان التي تقام في كل عام.

أسرار قذرة في المدن المتمردة كدرعا وحمص سرعان ما تبنى علماؤها مطالب الشارع، ولكن في دمشق وحلب كان الكلام العلماء منقسمين، ولكن أهمهم وهو البوطي خالف التوقعات، إذ بعد إهمال النظام له كثيراً كان خطابه مؤيداً له، " وينبغي التأكيد على أنه، بصرف النظر عن التوترات التي شُوهدت في عام 2010، كان البوطي أكثر قربًا من الدولة في عام 2011 من أي لحظة أخرى في حياته المهنية. يمكن أن يُعزى ذلك إلى: أولاً، ربما أدت ثلاثة عقود من العلاقات الحميمة بالأجهزة السياسية والأمنية إلى توليد حصتها من «الأسرار القذرة» التي يمكن أن يؤدي الكشف عنها إلى تشويه سمعته إلى الأبد، ما يعرِّض للخطر واحدًا من الأشياء التي يهتم بها عالم الدين كثيرًا: سيرته المستقبلية.

البوطي والقرضاوي وإضافة إلى ذلك، مُنح البوطي، منذ عام 2008، مسؤوليات متزايدة داخل الإدارة الدينية، فبعد تعيينه رئيسًا للجامع الأموي، اعتمدت وزارة الأوقاف اعتمادًا كبيرًا على سمعته في دعم إصلاحاتها، ولا سيّما من خلال تكليفه بالإشراف على المناهج الدراسية الجديدة التي وضعتها الدولة للمعاهد الشرعية. ولا ينبغي أيضًا أن نستثني أهمية العوامل النفسية، أي هوس البوطي المعروف بنظريات المؤامرة، ونخبويته الصريحة، وغروره، الذي جرح مرتين في بداية الأزمة: مرة بتظاهرات الجامع الأموي بعد خطبته، ثم الانتقادات التي وجهها المؤيد المتحمس للثورة السورية يوسف القرضاوي إلى «العلماء السلبيين» أو «علماء السوء» أي المدافعين عن الأنظمة القمعية".

خذلان! أما الشيوخ الدمشقيون الذي أيدوا المطالب الاحتجاجية" الأخوان الرفاعي" فقد تم خذلانهم من قبل حاضنتهم داخل المدينة، فيما اشتعلت الأرياف المحيطة بدمشق بالمظاهرات، " لتفسير إخفاقهم، كان التلاميذ الأكثر قربًا من الرفاعي قد تذرعوا بالانتشار الأمني غير المسبوق الذي شهدته دمشق في الأيام الأخيرة من رمضان. لكن ما شدَّدوا عليه أكثر هو «جبن» الدمشقيين. وكتب أحدهم: «يا شيخ أسامة ... لقد خانك تلاميذك ... أهل دمشق خانوك».