براء الجمعة يكتب.. فداء للسيد: حينما يصبح الولاء للحذاء فضيلة

فداء للسيد: حينما يصبح الولاء للحذاء فضيلة.. اختيار أم قيد، لماذا يخضع الانسان بإرادته؟
مصدر الصورة: الإنترنت
براء الجمعة * - تفاصيل برس

في خضم الحروب والصراعات التي تجتاح العالم، قد يبدو غريباً ومستهجناً أن نسمع بعض البشر الذين يعانون من قصف ودمار، أو يخسرون أحد أقاربهم، يرددون عبارات مثل: "أنا وعائلتي فداء لـ "صباط السيد" أو "فداء للقائد". كيف يمكن لإنسان، بعد تعرضه للضرر، أن يعبر عن ولاء مطلق لمن تسبب في معاناته؟ هذه الظاهرة، رغم غرابتها، ليست نادرة؛ بل تتكرر في العديد من السياقات، وهي ما يُعرف بـ"العبودية الطوعية".



العبودية الطوعية: المفهوم والتعريف



تحدث المفكر الفرنسي إتيان دو لا بويسي في كتابه "العبودية الطوعية" عن هذه الظاهرة، التي تعبر عن حالة قبول الأفراد بالخضوع للسلطة طوعاً، حتى عندما يكون لديهم القدرة على الرفض أو التمرد والتغيير.



يطرح هذا المفهوم تساؤلات حول الدوافع النفسية والاجتماعية التي تجعل الإنسان يقبل الظلم والخضوع ويمجد السيد، رغم أن المنطق يدعو إلى الرفض والمقاومة، المثير للاهتمام أن الشخص الذي يقبل بالعبودية الطوعية لا يرى نفسه ضحية، بل يعبر عن ولاء عميق لمن ألحق به الأذى، وهو سلوك يتناقض مع الفطرة الإنسانية الساعية نحو الحرية.



الأسباب النفسية والاجتماعية للعبودية الطوعية



تتعدد العوامل التي تسهم في تفسير ظاهرة العبودية الطوعية، وتأتي من مزيج بين العوامل النفسية والاجتماعية:



1. التطبيع مع الظلم: يعيش بعض الأفراد في بيئات قمعية لفترات طويلة، حتى يصبح القمع جزءاً طبيعياً من حياتهم. يتماهى هؤلاء الأفراد مع النظام الذي يمارس الظلم، ويقبلون به كجزء من واقعهم اليومي. مثال على ذلك، بعض المجتمعات التي تعيش تحت حكومات قمعية تعتبر الظلم "ثمناً طبيعياً للأمان"، فيبررون معاناتهم وكأنها ضرورية للحفاظ على النظام.



2. العجز المتعلم/ المكتسب: يشير هذا المصطلح إلى حالة نفسية يمر بها الفرد عندما يحاول مراراً وتكراراً تغيير واقعه ويفشل في كل مرة. بعد عدة محاولات فاشلة، يصل الفرد إلى قناعة بأنه عاجز عن التغيير، فيتوقف عن المحاولة. يشبه ذلك حال الشخص الذي يجد نفسه داخل دائرة من الظلم، لكنه يختار البقاء داخلها بدلاً من البحث عن حلول.



3. الخوف من التغيير: التغيير يحمل دائماً مخاطر ومتاعب، والمجهول غالباً ما يكون أكثر رعباً من الواقع القاسي المعروف. لهذا السبب، قد يفضل الأفراد التمسك بالوضع القائم مهما كان مؤلماً، لأنهم يخشون العواقب التي قد تأتي مع التمرد.



4. ثقافة التمجيد الموروثة: في بعض المجتمعات، يتم غرس أفكار تمجيد السلطة والقادة منذ الصغر، بحيث تصبح الطاعة والخضوع جزءاً من الهوية الثقافية المجتمعية. من هنا ينبثق ولاء غير مشروط للسلطة، حتى لو كانت تمارس الظلم والقمع.



أمثلة على العبودية الطوعية



هناك أمثلة عديدة على العبودية الطوعية في مختلف المجتمعات. في بعض الدول التي تعاني من أنظمة قمعية، نجد أناساً يقدسون الحكام أو القادة رغم المعاناة اليومية التي يعيشونها من جوع وقهر.



حتى في حالات الحروب والنزاعات، نجد أحياناً أفراداً يعبرون عن ولاءهم المطلق لقادة تسببوا في تدمير حياتهم ومجتمعاتهم. مثال آخر هو التضحيات الكبيرة التي يقدمها بعض الأفراد في سبيل الدفاع عن أنظمة سياسية أو زعماء أو جماعات، رغم أن هذه المنظومات قد تكون مسؤولة بشكل مباشر عن آلامهم.


كيف يمكن مواجهة العبودية الطوعية؟



مواجهة هذه الظاهرة تتطلب جهداً جماعياً يبدأ من الفرد وينتقل إلى المجتمع ككل. هناك بعض الخطوات التي يمكن اتخاذها:



1. الوعي بالحقوق: يعتبر الوعي بالحقوق الفردية الخطوة الأولى نحو التحرر من العبودية الطوعية. عندما يدرك الفرد أن الظلم ليس قدراً محتوماً، يبدأ في التفكير في سبل مقاومته والسعي نحو التغيير.



2. تعزيز الثقة بالنفس: يلعب تعزيز الثقة بالنفس دوراً محورياً في دفع الأفراد نحو التغيير. عندما يشعر الفرد بأنه قادر على إحداث فرق في حياته، يزداد تحفيزه لمواجهة الظلم.



3. إيجاد دعم مجتمعي: إيجاد بيئة داعمة تشجع الأفراد على مقاومة الظلم والخضوع هو عامل أساسي في التغلب على العبودية الطوعية. عندما يشعر الفرد بأنه ليس وحده، يكون لديه دافع أكبر للتمرد على القيود المفروضة عليه.



4. كسر التمجيد الموروث: تغيير الثقافة المجتمعية التي تمجد السلطة يتطلب جهداً طويل الأمد يبدأ بالتعليم والتوعية. يجب أن يتعلم الأفراد منذ الصغر قيم الحرية والمساواة والعدالة، وأن الظلم لا يجب أن يُبرر أو يُقبل.



تثير ظاهرة العبودية الطوعية تساؤلات عميقة حول طبيعة النفس البشرية وآليات استسلامها. كيف يمكن لإنسان أن يتقبل الظلم ويمنح ولاءه لمن ألحق به الألم؟.



الإجابة تكمن في مزيج معقد من العوامل النفسية والاجتماعية، بدءاً من التطبيع مع القهر، مروراً بالعجز المتعلم، وصولاً إلى الخوف من المجهول والتمجيد الثقافي المتوارث.



لكن هل نحن أسرى لهذا الاستسلام؟ بالطبع لا. التحرر من هذه الدوامة يبدأ بالوعي، وبتعزيز الثقة في قدرتنا على التغيير. حين ندرك حقوقنا ونتمسك بها، ونعمل على خلق بيئة مجتمعية تدعم التمرد على الظلم، نضع أسساً لمجتمع أكثر عدلاً وحرية. إن إدراكنا لذواتنا وإمكانيات المجتمع وقدرتنا على رفض القيود هو مفتاح التغيير الكريم الذي نسعى إليه.

 

* براء الجمعة | مختص في الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي

الوسوم