مريم الإبراهيم تكتب.. جباليا تنزف وغزة تحت الرماد

مريم الإبراهيم تكتب.. جباليا تنزف وغزة تحت الرماد
مصدر الصورة: الإنترنت
مريم الإبراهيم – تفاصيل برس

فلسطين.. تلك الجوهرة التي يلفها الألم في قلب الشرق، تتجلى كأرضٍ مباركة وصابرة على جراحها التي لا تلتئم، كلما نظرت إليها، تشعر وكأنك تلمس وجعًا طويل الأمد، محاطًا بالحصار والخذلان.

الدمع يسيل من عين فلسطين كما تسيل أرواح الشهداء في شوارع جباليا 150 شهيدًا اليوم، ليسوا أرقامًا، بل ارواحاً وأحلامًا وأمالًا تساقطت وسط الدخان والنار، ضاعت في قلب غزة تعيش على شفا النار منذ أكثر من عام، غزة لم تعد مدينة تحترق فقط، بل باتت رمادًا يتناثر في الريح، رماد ذكريات وأيام أطفأت قسوة العالم بريقها.

الاحتلال بدأ منذ عقود، منذ 1947 حين قُسمت القدس، ثم حرب النكبة في 1948 التي أنهكت الروح الفلسطينية، وأسكنت الألم في قلب كل شجرة وزهرة على أرضها، وعلى مرّ السنين، كل خطوة احتلال كانت كأنين طويل من أوجاع الشعب، كل جدار يبنى هو جرح ينزف، وكل ضحية تسقط هي قصة تُكتب بالحبر الأسود على صفحة تاريخ قاسية.

عند رؤية غزة، تختلط المشاعر بداخلنا كما تختلط فيها الألوان، كيف لجمال البحر وأمواجه الهادئة أن يمتزج برائحة الدمار؟ كيف للأفق المفتوح أن يظلّ مقيدًا بالحدود؟

غزة.. تلك المدينة التي صمدت رغم أنف الزمان والجغرافيا، تحمل على كتفيها أحلام شعب وأحزان أمة ترى فيها شوارع قد اعتادت على رائحة البارود، وبيوتًا تحولت إلى أطلال، ولكن، رغم كل شيء، تجد في عيون أهلها نورًا لا ينطفئ، نورًا يشبه الحلم العنيد بالحرية.

من بين الركام، تخرج أيدي الأطفال لتلعب بأحلام صغيرة، بينما قلوب الأمهات تغلي بالخوف، الحياة هنا لا تتوقف رغم كل شيء، تسير ببطء، لكنها تسير، تشعر وكأن روح غزة ترفض الاستسلام، وكأن الهواء يهمس لكل عابر "نحن هنا... وسنظل هنا".

كل زاوية في غزة تحمل قصة، كل حجر هنا شاهد على كفاح طويل، أبطال غير معروفين يختبئون خلف تلك الجدران المتهدمة، يعيشون ليوم آخر من أجل قضيتهم غزة لوحة رسمتها النيران، ولكن لم تفلح في محو ملامحها.

وأنت تشاهد القتلى كل يوم، لا يمكنك إلا أن تتساءل إلى متى؟ 

إلى متى سيظل هذا المكان يعاني؟

إلى متى سيظل العالم ينظر بصمت؟ 

ولكن رغم كل الأسئلة التي لا إجابة لها، تظل غزة تقف شامخة، ترفع رأسها نحو السماء، تنتظر وعدًا لم يتحقق بعد، وتتمسك بالأمل الذي يحييها في كل صباح جديد.

فغزة رغم ألمها ووجعها، تظل رمزًا للأمل أليس الصبح بقريب؟

تعيد ترتيب نفسها بعد كل قذيفة تسقط فيها، في هذا المكان الذي صُلبت فيه الحياة بين الخوف والأمل، يرتسم مشهدٌ يعجز عن وصفه الحرف، كأنه لوحة معلقة بين السماء والأرض، حيث الغيمات السوداء تمتزج بدخان البيوت المحترقة.

تشعر وكأن التراب تحت أقدام شعبها يئن، تشاهد الجدران التي صمدت رغم الحطام، وكأنّها تُخبرك عن قصص عاشها أهلها مع الظلم والخراب، كل حجر هنا يحكي عن أملٍ ظل معلقًا برغبةٍ واحدة "الحرية" غزة المدينة التي لا تملك خيارًا سوى النضال، تتألم بصمتٍ وتواجه بمفردها، بينما يرقب العالم بصمتٍ قاتل.

كيف لرائحة البحر المالح أن تمتزج برائحة الدماء؟ وكيف لتلك النسائم الباردة أن تتسلل وسط الركام لتعيد للأرواح المحاصرة بعضًا من الحياة؟

كل شيء في غزة مختلف، فالصمود أصبح لغة الحياة، والأمل لا يختبئ وراء الحدود، بل يعاند كل لحظة يأس تُفرض عليهم هنا، تعيش الأمهات بقلبين، أحدهما ينبض لأطفالها، والآخر يتفطر عند كل خبر قصف أو قنص.

فلسطين اليوم ليست مجرد أرض، بل كيان مضمخ بالجراح والصبر، نزفت دماءها على يد الاحتلال، وما زالت تقاوم رغم كل الدمار، من جباليا إلى غزة، من القدس إلى كل حجر في فلسطين، يصرخ كل جزء من هذه الأرض مطالبًا بالحرية، كل روح شهيد ترتفع إلى السماء تذكرنا أن الألم لا يمحو الحق، وأن هذا الشعب ما زال حيًا.

غزة تلك التي لا تجد حتى في الحلم ملاذًا، محاصرة من الجهات الأربع، وعيون العالم تتفرج، بينما تدمي قلوب أهلها بنيران الظلم، "يا الله" أليس لفلسطين كما سوريا موعدٌ مع الحرية؟ أليس هناك فجرٌ يأتي ليشفي كل هذه الجراح؟.