د. محمد جمال طحان يكتب.. مكابدات صحفيّة

د. محمد جمال طحان يكتب.. مكابدات صحفيّة
مصدر الصورة: تفاصيل برس
د. محمد جمال طحان - تفاصيل برس

لم نكن ندري أسباب التوتّر الذي يسيطر على العاملين في قسم التدقيق بالجريدة، خلافاً للانسيابية التي يتمتّع بها الزملاء في الأقسام الأخرى.

في غمرة انشغال المدققين وتداخل أصواتهم في قراءة النصوص ومتابعتها، يدخل أحد الذين يكتبون من خارج الصحيفة قائلاً: لقد أغفلتم وضع (الشدّة) فوق كلمة (حمّام) من قصيدتي فصارت تُقرأ (حمام)… وآخر يتساءل عن سبب إغفال همزة (الإستعمار) من نصّه.

هذا بعد أن يكون رئيس التحرير وأمين التحرير ومسؤول الصفحة قد أنّبوا جميعاً المدقق على إهماله الفظيع، حيث يشرح كل واحد منهم للمدقق أصول العمل مذكّراً إيّاه بواجباته. المدقّق صاحب العلاقة يثور في وجه الشاكي مما يجعل تقويم الخطأ عصيّاً، وآخر يختصر النقاش قائلاً: يا أخي أخطأنا.. جلّ من لا يخطئ.. لو قرأت نصف هذا الكم من (الإبداع) لعدوت هارباً من العمل الصعب.

ومما يزيد الأمر صعوبة افتقار الجريدة إلى مكتبة مرجعية، ولهذا نجد تعليقات بعض المدققين على الأوراق التي بين أيديهم حين يواجهون نصّاً محيّراً أو كلمة يصعب إعرابها فيكتبون على هامش التنضيد: لو كان لدينا معجم لألفاظ القرآن الكريم ومعجماً نحوياً ومعجماً لغوياً وبعض المصادر المهمة للتحقق من صواب بعض الكلمات، لكنّا صحّحنا ونحن مطمئنّون، ولأننا لا نملك مكتبة في الجريدة، نضع اجتهاداتنا.. والله أعلم.

ومـمّا( زاد الطين بلّة) استنفار الصحيفة المفاجئ إثر تكليفها بطباعة الكتب المدرسية مما أدى إلى تقليص عدد المدققين وصار الواحد (يمقمق) عينيه في التنقّل بين النص - الأصل (بخطوطه العبقرية) والنص المنضَّد الذي يصرّ (الكومبيوتر) على قلب بعض حروفه، فضلاً عن سهو المنضّدين وهم يفكّرون في باب استدانة لدفع فاتورتي الهاتف والكهرباء.

هذه بعض أسباب التوتر التي لم تُتَح لي فرصة تشخيصها إلاّ بعد أن قرأت كتاب (نظريات الأيام المحيرة في الغضب والأعمال العدوانية) الذي يوضّح فيه المؤلف لماذا نكون غضوبين وعدوانيين في أيام، وفي غيرها لا نكون. 

يبيّن الكتاب أثر العوامل الاقتصادية والسيكولوجية والفيزيولوجية والجوية في النفس البشرية مما يؤدّي إلى الغضب. لكنني - في حالتنا هنا - اكتشفت عوامل أخرى لا تقلّ أهميّة عن تلك: فتداخل الأصوات، وضيق الغرفة، وعدم وجود منفذ للتهوية فيها؛ كل ذلك يجعل من غرفة التدقيق مكاناً مثالياً لإثارة الغضب.

وربما للسبب نفسه، فضلاً عن عوامل أخرى، نجد رئيس التحرير مرحاً ودوداً، فهو يقيم في غرفة واسعة وهادئة، وكذلك غرف المحررين حيث نجد قلّة في عدد السكان ووسعاً في المكان.

لكن الذي ما يزال يحيّرني إلى الآن وجود غرفة واسعة في الجريدة لا يشغلها كثيرون، ولكنّ التجهّم باد على أصحابها لأسباب لا نعرفها، مما يجعلنا في حيرة من أمرنا حيث لا يمكّننا كتاب الأيام المحيّرة من الإجابة عن مثل هذا السؤال. كما أن إشاعة جو الغبطة المفاجئ الذي يجتاح التدقيق والتنضيد معاً نتيجة إطلالة إحدى الكاتبات أحياناً، لا يمكن تفسيره من خلال ذلك الكتاب أيضاً، مما يعني أن في النفس الإنسانية خفايا تستعصي على كل علم.

إذا أردت أن ترى عملاً وظيفياً حيوياً عليك أن تدخل غرفة التنضيد والإخراج في مبنى الجريدة.

ولأن ذلك متعذّر بسبب وجود لوحة على الباب " يمنع الدخول إلى قسم التنضيد لغير العاملين في الفرع " ننقل لك مشهداً مصغّـراً  للمكابدات اليومية التي يعانيها المدققون والمنضدون والمخرجون.

أول ما يطالعك في القسم صوت " أبو النور" : يا رب /3/ بالشهر ولم يبق من راتبي "الدومري". لم أفِ ديوني.. ولم أدفع فاتورة الكهرباء.

قالت أميرة: - ما مبلغ الفاتورة ؟

قال: - /38000/ ليرة هذا ماعدا الغرامة التي لا تُعطى وثيقة بها.

سألتُه باستغراب: - ما الذي تفعله بكل هذه الكهرباء ؟

أدار كرسيّه باتّجاهي وراح يعدّ على أصابعه: غسالة .. مسجلة .. تلفزيون.. عصارة.. ماكينة كبة .. سيشوار.. حتى زوجتي على الكهرباء … أولادي الثلاثة على الكهرباء.. وأنوي - إن شاء الله - أن أوصي على رابع.. على الكهرباء.. طبعاً. راتبي كبير /33000/ ل.س ولا أدري كيف سأتمكّن من صرفه خلال /30/ يوماً فقط.

قلت: - مع الأولاد؟ … ضحكت أنيسة بعمق في حين قال: - هذا الراتب بعد الزيادات وبعد خدمة عشر سنوات، ولو أنّهم اخترعوا جهازاً لـ / مط / الراتب لكنّا في غنى عن العمل الأساسي المسائي. والمشكلة أنّ آلة / مط الراتب / إن اخترعوها ستكون_ أيضاً _على الكهرباء. صمت برهة ثم قال: - ألم تعلم أن مديرية الهاتف غرّمتني بمبلغ كبير لأنّ عطلاً فنيّـاً ظهر في مقسمي..

في البداية صعقت لأن المبلغ /120000/ ل.س وبعد مراجعات متعدّدة اتضح أن كلفة الإصلاح هي فقط /12000/ ل.س أي أقل صفراً من الرقم السابق، لذلك حين طلبوا مني /12000/ أخرى دفعتها بسرعة قبل تغيير رأيهم وإضافة صفر آخر. يا أخي.. لا أتحدّث على الخطوط الساخنة، وكيف حدث عطل في المقسم لا أدري..

ولماذا أدفع كلفة الإصلاح وحدي دون خلق الله أجمعين.. أيضاً لا أدري..

قال له أحمد: - اعتبر أنهم وضعوا صفراً جانب الرقم، واعطني المبلغ كي أسدّد به جمعياتي.

قلت له: - ألم تشترك في جمعية منذ شهرين كي تسدّد الجمعيات التي شاركت بها سابقاً؟

قال: لا.. هذا أمر جديد سأحدّثك عنه فيما بعد.

وحتى يحدثني أحمد عن سره يبقى للحديث صلة.

فمن يعي أحزاننا نحن الذين نوصد أبواب الشكوى كي ينعم الأصدقاء ببريق ابتساماتنا؟

وحين يقتحم المساء أسوارنا نغصّ بأيّامٍ تقتل  أحلامنا.. واحداً.. واحداً..

نفترش آلامنا حتى الصباح، حيث نرشُّ الفرح مع العصافير.. لأنّنا تعبنا من البكاء.

من يدرك وحشتنا التي تقضمنا ببطء، ونحن نعدّ خيباتنا زفرة.. زفرة، على مرمى عمرنا الذي يتكوّم خلف مرآة تكشف كحل الجفون.

نحن الذين نعجز عن تكوين بيت صغير فنبني سرطاناتنا خليّة خليّة، كيما ندّعي أننا نفعل شيئاً في عالم وحشي يهدر أعمارنا.

من يعلم أننا ننتهي من أعباء النهار ثم نغوص في مسامات ليالينا الطويلة .. نصنع القهوة، ونحسب كم من العمر يمضي، وكم من الوقت يكفي لنحقّق أصغر أحلامنا.

نشرب القهوة ونحلم بورقة يانصيب تنقذ ما تبقّى منّا في منزل رطب في مبنى متصدّع في شارع منسيّ يقبع في زاوية مدينة مقهورة يتبختر فيها القادرون بأسلحة لم يصنعوها بأنفسهم ويعتاشون من عرقنا في الصباح، ومن بعض دمائنا المباحة في الليالي الكالحة.

من يعبأ بنا نحن الذين نجلس إلى صحن بللوري فارغ ثم نأكل أنفسنا كي لا نموت.

كل ما سبق يبدو ترفاً أمام ما بتنا نراه من وجوه غريبة في شوارع المدينة. وجوه فارسية روسية جنوبية تنتهك حرمة الحواري وهي مدّججة بما أتيح لها من سلاح، تصول وتجول وتغتصب ما تشتهي من بشر وشجر وحجر، فيتحوّل الصراع من محاربة الفقر والظلم، إلى الحرص على كرامة مستباحة، سفحتها سلطة محليّة اغتصبت مقاليد الحكم واستعانت بقوى خارجية لتبقى تصول وتجول على مرأىً من عالم غدا أرخص ما فيه الإنسان.