من إيبلا.. إلى عَبلَة!.. نص من كتاب "سكاكين الذاكرة" لـ نجم الدين سمّان

من إيبلا.. إلى عَبلَة!.. نص من كتاب "سكاكين الذاكرة" لـ نجم الدين سمّان
مصدر الصورة: الإنترنت
نجم الدين سمّان - فيسبوك

كنتُ حاضراً عندما أقيمت محاضرةٌ في المركز الثقافيّ بإدلب لباولو ماتيه عن أول اكتشافاته في إيبلا “تل مرديخ – جنوب شرق إدلب” فاكتشفنا فجأةً.. بأن قرية"مرديخ" على اسم "مردوخ" إلهُ إيبلا؛ وبأننا أحفادُ حضارةٍ قبلَ أكثرِ من ثلاثةِ آلافِ عام؛ وفي الوقتِ ذاتِه.. بأننا خارجَ التاريخ أيضاً؛ وبالتحديد.. خارج المستقبل؛ طالما أننا قانعون بما نحنُ فيه؛ وبما نحنُ عليه.

قرّرتُ زيارة موقع إيبلا ذات يوم؛ بينما انا طالب في الثانوية العامة؛ وفي إحدى الزيارات التقيتُ أستاذي في مادة التاريخ عبد الله حيّاني أتياً من بلدته "سراقب" القريبة من إيبلا؛ فابتسم: -انت هون.. يا مُشاغِب؟!.

وكنت أشاغب عليه بأسئلتي الكثيرة؛ فضحكت: - جاي شوف عبلة.

وكان أحدُ المُتفصحنين على طريقةِ مَن جَعَلَ شكسبير عربياً واسمه: الشيخ زبير؛ قد قال بأن اسم إيبلا مُشتقٌ من اسم "عبلة" وتعني بالعربية: المرأة البيضاء المُمتلئة؛ بينما تكشّف فيما بعد.. أنّ كلمة "إيبلا" تتألف من مقطعين: إيب: إياب/ عودة؛ إيلا: الإله السوري إيل؛ وتعنيان معاً: مُستقرّ الإله؛ وفي المعنى المجازي: الجنّة.

ضحك أستاذي الحيّاني: - آه منّك.. يا عنتر؛ تعال معي نزور صديقنا ألفونسو.

وهكذا.. صرنا في كلّ زيارة نلتقي عند البروفيسور ألفونسو آركي عالم اللغات السامية في بعثة باولو ماتيه؛ حيث بدأ بعد اكتشاف مكتبة إيبلا يستعدّ لإصدار أولِ مُعجَمٍ لأول مئة كلمة ترجمها من الإيبلائية إلى: الانكليزية والايطالية والعربية؛ فاستعصت عليه مُفردةٌ واحدة: كَيَّات.. كَيَّاتي – كَيَّاتو؛ كما يستعصي الرقم مئة بعد الرقم السحريّ 99 عند كثيرين.. حتى في استفتاءات الاستبداد الرئاسية!؛ فسأل عنها مدرس التاريخ؛ لم يُجِبهُ الحيّاني على الفور.. أخذنا في سيارته إلى مجموعة أطفالٍ يلعبون بالدِحل “الكريات الزجاجيّة” فمَازَحَهُم.. وهو يلتقط إحدى الكرات: - هَي.. كَيَّاتي.

فردّ عليه أحدهم: - مو كيّاتَك.. هي كيَّاتي وانا معلِّمها من هون.

ثمّ خطفها من يد أستاذي ودوَّرها بين أصابعه" - شوف العلامة.

ضحك الأستاذ وضحك الأطفال من حوله؛ فمَدَّ الحياني يده إلى داخل جيبه ثم أخذ يمنح كلَّ طفلٍ قطعةَ نقودٍ معدنية: - اشتروا فيها كَيَّات جديدة.

عندها عرف الفونسو آركي معنى كلمة: كَيَّات.. أشياء شخصية؛ فأضافها لقاموسه بعد 3 آلاف عامٍ على دمار إيبلا وإحراق مكتبتها التي تحوي حوالي 20 ألف رقيم حفظتها نارُ الأعداء من التَلَف!.

ثم تكشَّفَت مع ترجمة رقيمات مكتبتها مدى القرابة ما بين اللغة الايبلائية وبين اللغة العربية؛ من مثل:

اس – مع – إل: الإله إيل يسمعني؛

را – عي – نا – حَدَد: راعينا هو الإله حَدَد؛

دا – بي – حا – ما – لك: ذبيحة الملك وأُضحِيَتُهُ للآلهة؛

دل – حي – ل: صاحب الحِيل / العَزم والقوة؛

كما نقول بالعاميّة حتى الآن: انهدَّ حِيلِي!.

وقد انهدَّ حيلُ ألفونسو وهو يبحث عن وجه الشبه بين إيبلا وعبلة؛ فغادر سوريا وفي نفسهِ.. شيءٌ من "حتى".