من جامعة حلب إلى فرع الخطيب.. حكاية أستاذ جامعي في المعتقل

من جامعة حلب إلى فرع الخطيب.. حكاية أستاذ جامعي في المعتقل
مصدر الصورة: الإنترنت
محمد إقبال بلّو - تفاصيل برس

جالسا في مساحته الضيقة ينظر إلى زاوية الغرفة الرطبة، يراقب جرذا كبيرا يتناول حصته من قطع الخبز المتعفنة، بكل الضجيج الذي يعصف بعقله والهدوء الذي يبديه، يدرك عبد العليم أن ذلك الجرذ السمين يسرق جزءا كبيرا من طعامه وطعام المعتقلين الآخرين، المتراصين كملابس بالية في تلك الزنزانة البعيدة مئات الساعات، وربما مئات الأيام عن فرن الرازي، ذلك المخبز جيد الخبز والذي يبعد مسافة عشر دقائق عن فرع أمن الدولة.

عبد العليم البروفيسور وعالم النبات كان حينها يشكل خطرا كبيرا على أمن الدولة، للعلم هو ينكر ذلك لكنه لا يمتلك أدلة الإنكار، أما رجال الأمن يمتلكون كل دلائل الإدانة.

فعندما كانت كلفة الهروب من جحيم الوطن إلى النعيم الألماني لا تتجاوز ألف دولار، وعندما كانت في جيبه تلك الدولارات اللعينة، رفض مغادرة كلية العلوم في جامعة حلب، وكانت حجته عندما ارتكب تلك الجريمة التي تشكل خطرا بالغا على الأمن القومي السوري، بأنه لن يترك طلابه في المرحلة الجامعية الأولى، ولا طلاب الماجستير، وبأنه من العار أن يترك طالبة دكتوراه كان مشرفا على رسالتها، قبل أن تتم بحثها وتصل إلى مناقشة الرسالة.

قال له المحقق بعد أسابيع من الاعتقال: اعذرنا دكتور فقد نسيناك. ابتسم عبد العليم وقال في نفسه: الأمر لا يتطلب اعتذارا فعدة أسابيع ليست زمنا يقاس في المعتقلات الأسدية. لكنه وبسرعة خاطفة أخفى ابتسامته، وأخفى كل الجمل التي سقطت سهوا على لسانه بينما شفاهه مغلقة تماما، كأفواه ملايين السوريين، ابتلع تلك الجمل، غص حلقه بها، لكنه شعر بالارتياح عندما وصلت قاع معدته، فهنا لن يتمكن المحقق من استخراجها أبدا، اللهم إلا إن قرر تشريح جسده.

في مبنى الهجرة والجوازات القريب من حي الكرة الأرضية، والبعيد عن كل دول الكرة الأرضية، أراد عبد العليم أن يحصل على جواز سفر، فالكثير من الدعوات لمؤتمرات علمية تصله، وكلها تتطلب وجود جواز سفر، وعلى الرغم من قيمته الرخيصة، إلا أن قيمته غالية جدا، إذ يمكنك بواسطته أن تدخل الجمهورية الأسدية السورية دون فيزا. بينما كان ينتظر دوره، طلب منه الموظف اللبق أن يرافقه، أوصله إلى أحد الضباط وأخبراه هناك بأنه رهن الاعتقال، ومطلوب لأحد الفروع الأمنية، وتم نقله إلى ذلك الفرع المخابراتي القديم في منطقة المحافظة التي تعتبر من الأحياء الراقية في حلب.

لدى دخوله إلى فرع أمن الدولة، سأله السجان: دكتور في أي اختصاص؟ أجاب بأنه دكتور في علم النبات. وهنا تبدت الثقافة العالية للسجان ومعلوماته المتعلقة بذاك الاختصاص: النبات يحتاج إلى ضوء حتى ينمو ، أليس كذلك؟ أكد عبد العليم صحة تلك المعلومة، فأضاف السجان: ليكن لديك علم بأنك لن ترى الضوء بعد الآن.

حلب المدينة التي حاول قتلها الأسد الأب فلم ينجح، وكذلك حاول الابن عارض أزياء الأندر وير ولم ينجح أيضا، وذلك لأن حلب مدينة غريبة يلتقي فيها العلماء والأدباء والمخبرون والسكرجية والحشاشون، على طاولة واحدة يجمعهم عليها سيف الدولة، ويقدم لهم مطربه المفضل صباح فخري، ويسكب في صحونهم الكبة والشيشبرك والكباب واللحم بعجين مع كاسات العيران والعرق، فتراهم أسعد البشر، لولا خمسة فروع أمنية كان تسرق نصف المازا من فوق الطاولات.

القيد البلاستيكي بدأ يحزّ جلد يديه وينغرس في جلده كشتلة من شعارات رديئة، يسيل الدم من معصميه، والسيارة العجوز التي كانت تنقله هو والعشرات من المعتقلين من حلب إلى دمشق، تمشي ببطء سادي لا يوصف، وعند كل مدينة تتوقف فيفرح عبد العليم بالوصول، ربما الوصول إلى مكان الإعدام، ربما الوصول إلى سجن آخر، ربما، بل ربمات، لكن لا مشكلة، ما يهم هو الوصول وانتزاع القطعة البلاستيكية من لحمه، لكن تلك السيارة الروسية القبيحة تحمل معها بعد كل توقف مواطنين سوريين آخرين اعتبرهم حافظ وأبناؤه وأبناء صلاح جديد وأبناء كوهين، أعداء لهم، ثم تنطلق ثانية، إلى أن وصلت بعد أن جابت سوريا الأسد من شمالها لجنوبها، إلى فرع الخطيب بدمشق.

بعد حفلة الاستقبال المعروفة قدم لهم إخوتهم في الوطن وجبة العشاء، زيتونة واحدة، زيتونة لا شرقية ولا غربية، لا سنية ولا علوية، زيتونة من زيتونات ادلب التي سرقها أحد الطيارين البواسل قبل يقصف شجرتها لتصير كأنها لم تكن، أما جبنة حماة قد غابت عن وجبة العشاء، فحماة رغم كل ما مر عليها من أبناء حرام، لم تعرف الجبن بعد انطلاق العاصفة السورية. 

فرح عبد العليم بتلك الزيتونة فرحا عظيما، تناولها ببطء شديد، غازلها، بادلها قبلات حارة، يسمونها هنا في ألمانيا حيث أعيش قبلات اللسان، وكان ذلك دلالة هامة بالنسبة لعبد، إذ عرف بأنهم حتى اللحظة لم يقطعوا لسانه، لكن ذلك لم يكن مصدر فرحه، لمن لا يعرف أخي عبد العليم سأخبركم بأنه لا يفارق فرشاة أسنانه، لديه هوس قديم بها، إذ أنه وبعد كل وجبة لا بد من أن ينظف أسنانه بالفرشاة بمعجون خاص باللثة الحساسة، هو حساس بطبعه، وقد ورثت منه لثته تلك الحساسية العالية، نظف أسنانه ببذرة تلك الزيتونة، فرك كل سن على حدة، فعل ذلك مرارا، إلى أن اقتنع بأن أسنانه التي لم ينظفها منذ أيام، قد أصبحت بيضاء لا كدرا يشوب صفاءها، واعتبر الزيتونة رفاهية بالمقارنة مع تنظيفه لأسنانه فركا بالجوارب في فرع أمن الدولة بحلب. عدم وجود مرآة كان يومها يعتبر حظا جيدا أبعده عن الصدمة لا شك.

مطّ السجان رأسه من نافذة صغيرة في الباب تسمى طاقة، هذه الطاقة التي لا يعبر من خلالها الهواء بل تدخل منها طاقة أخرى سلبية تزيد الطين بلة، سأل السجان إن كان أحد المعتقلين يريد دواء، ربما قصد شيئا آخر، لكن البروفيسور وبكل ثقة تقدم باتجاه الطاقة وطلب ثلاثة أنواع من الأدوية، صرخ السجان بغضب: هل أحضر لك أركيلة أيضا؟ أغرب عن وجهي. عاد إلى مكان جلوسه خائبا وجمع جسده في ذلك المربع الذي لا يزيد ضلعه عن خمسين سنتيمترا.

سأله المحقق: هل مازال أخاك الإرهابي يزود هؤلاء الكلاب بالسلاح؟

عبد العليم مذهولا بما يسمع: أخي كاتب وشاعر لا أكثر ولا أعتقد بأنه قد حمل سلاحا من قبل. 

المحقق مقاطعا: أخبره بأنه يمكن له انتقادنا ولكن بأدب.

هز عبد العليم رأسه بالنعم وهل لدى السوري سوى النعم إلى الأبد ليقولها لجلاده؟!

وهل تذهب إلى عندان؟ عبد العليم يجيب بأنه يفعل ذلك ويعرف بأن الإنكار لن يفيده، فزياراته المتكررة لبيته المدمر بقنبلتين فراغيتين للبكاء على أطلاله لا يمكن نكرانها، وكذلك زيارته لبيتي الذي أحرقه حماة الديار منذ بدايات الثورة السورية، والاتصال بي وطمأنتي بأنه أي البيت، بيتصلح، كلها معلومات يسهر رجال الأمن لمعرفتها، فكيف ينكر؟!

رغم حالة التوتر التي كانت تعصف بجسده إلا أنه حافظ على تماسكه، وحدث نفسه مرة أخرى حامدا الله وشاكرا له، ذلك لأن المحقق لم يسأل عن أمور فعلها هو خفية، ولم يعرف عنها أحد مطلقا، لكنه كان يظن بأن المخابرات العامة السورية قد عرفتها، فهم يعرفون عنك أشياء أنت ذاتك لم تفكر بها يوما، ولطالما لم يذكر المحقق تصريحاته العلنية بأن الطلاب المتظاهرين في كلية العلوم لا يرتكبون جرما عندما ينشدون لبلدهم ويعبرون عن رأيهم، وبأي حق يدخل رجال الأمن وبأسلحتهم إلى الحرم الجامعي، فإن الأمور بخير. ولطالما لم يذكر المحقق لقاءاته بمسؤولين في المعارضة من أصدقائه القدامى فإن الأمور جيدة. ولطالما لم يذكر المحقق بأنه قد حطم برواز صورة بشار الموجودة في مختبره البحثي، ثم مزق الصورة ووضعها في حقيبته مع قطع البرواز المكسر، فالأمور بخير، ولطالما لم يذكر المحقق بأن ذاك البرواز المصنوع من خشب الزان قد خبأه عبد العليم في حقيبته بعد أن كسّره لقطع صغيرة، وعبر به الحدود، حدود الحرم الجامعي باتجاه بيته المستأجر في نزلة أدونيس، فألس غوت، وهي عبارة ألمانية معناها، كله تمام.

نزلة أدونيس لا علاقة لها بالشاعر السوري أدونيس الذي يخشى من الثورات التي تخرج من المساجد. في الشارع النازل من ساحة الجامعة إلى وسط المدينة ذلك المقهى الجميل الذي يدعى أدونيس، والذي أظنه قد مات كما مات الآلاف من العشاق برصاص الوطن، إذ كان يسمى ملتقى العشاق لكثرة الشبان والشابات الذين اللواتي يتواعدون فيه.

في ذلك اليوم دخل البروفيسور السوري ومعه صيده الثمين إلى البيت، وأخبر العائلة بأنه أحضر الخشب من أجل الشواء. نظر أفراد الأسرة بدهشة وصمت، ذلك الصمت الذي يسبق العاصفة، والتي كادت أن تحدث عندما عرفوا بأنه اليوم سيشوي ماء. وضع قطع الزان مع صورة المجرم بشار في القازان، وهو سخان ماء الاستحمام، وأشعله ليسخن الماء ولتستحم العائلة مجانا، فالمازوت ليس من السهل الحصول عليه، بينما الكهرباء غائبة، ربما كانت معتقلة في تلك السنوات.

في يوم الإفراج عنه أدرك كم نقص وزنه خلال أسابيع قليلة، عندما بدأ البنطال يتهاوى للأسفل بفعل الجاذبية الأرضية، بذات الجورب الذي استخدمه كفرشاة أسنان، ربط حمالات الحزام ببعضها ليقلل مقاس الخصر، ثم توجه إلى أقرب حديقة ونام على عشبها حتى الصباح. 

تم الإفراج عن البروفيسور بعد أسابيع من الاعتقال، إذ تبين أنه اعتقل لسبب غير معروف بالنسبة له، وغير معروف من قبل السجان، وغير معروف من قبل المحقق.

مخابرات، تحقيق، غير معروف، اعمل معروف، مصدر، مخبر، خطه رفيع، معروف من قبل المختار.