رحل رائد الفضاء السوري محمد الفارس، في 19 أبريل 2024 تاركًا وراءه إرثًا من الشجاعة والعلم والوطنية.
ابن مدينة حلب، التي لطالما كانت رمزًا للتاريخ والحضارة، لم يكن الفارس مجرد شخصية علمية تحمل راية سوريا إلى الفضاء، بل كان صوتًا ثوريًا وطنيًا، انحاز منذ بداية الثورة إلى الشعب السوري. مؤكدًا في مسيرته، أن العلم والكرامة لا ينفصلان عن الحرية.
بفقدانه، ودعت سوريا علمًا من أعلامها الذين جمعوا بين النجوم والواقع، لتظل روحه جزءًا من الحكاية السورية التي لا تزال تُكتب بدماء الشهداء وآمال الثائرين.
وكان لرحيله صدى واسع وحزن عميق في الأوساط السورية والعربية، حيث شكّل فقدانه لحظة فارقة لكل من عرف قيمته العلمية والإنسانية.
رثاه الكثير من الكتاب والصحفيين والشعراء، معبرين عن الحزن الذي تركه غيابه في قلوب الملايين.
بكلماتهم، استذكروا مسيرته الاستثنائية كرائد فضاء ونموذج للإنسان الحر الذي لم يتخلَ يومًا عن مبادئه. كانت تلك المرثيات امتدادًا لحبّ الناس له واعترافًا بمكانته كرمز لوطنية صافية، جمعت بين العلم والموقف الثوري النبيل.
الكاتب والناقد محمد منصور، الذي عبّر عن عظمة هذا الرجل وكفاحه النبيل في وجه الطغيان. قال في نعيه: رائد الفضاء الذي جسد الشرف الوطني الرفيع وآمن بحق السوريين في التغيير”.
واستحضر منصور الذي نشر نعيه لرائد الفضاء في مجلة “العربي القديم” الشهرة الجماهيرية التي حظي بها الفارس، وكيف أثارت حفيظة نظام حافظ الأسد آنذاك.
وأشار إلى قول “فارس” في إحدى حواراته: “عندما صعدت للفضاء وهبطت، كان الكلام أن السوريين سيعلمون أبناءهم (بابا ماما محمد فارس)… من هنا كانت النظرة الديكتاتورية، فعمل النظام على حجبه في المنزل تسع سنوات تقريبًا.”
الدكتور زكريا ملاحفجي عبر موقع “SYRIA NEWS” تحت عنوان “ترجل رائد الفضاء اللواء محمد فارس”: “فقدت سورية ابناً باراً كان يتطلع لسورية حرةٍ ديمقراطية، يتطلع لكرامة الإنسان السوري التي سحقها آل الأسد، وقد كان رحمه الله فارساً بأخلاقه، يتمتع بأخلاق الفروسية من الشهامة والأنفة والغيرة والشجاعة، تابعناه صغاراً وأحببناه وعاشرناه كباراً، فكان مثالاً يُحتذى بالأخلاق، والعلم، والجد، والنضال”.
وتطرّق ملاحفجي إلى موقف “فارس” الثابت مع أبناء وطنه، قائلاً: “محمد فارس وقف مع أبناء وطنه بمطالبتهم للتغيير، وكان يرفض الحلول الترقيعية وأي طريقة عمل غير مؤسساتية… لابد من مؤسسة عسكرية ومؤسسة سياسية حقيقية تقابل النظام وهي تنشد التغيير”.
رحل الفارس، لكن كما ذكر الدكتور ملاحفجي: “نتاجه العلمي واسمه بقي فينا وقد احتضنه تراب بلده الذي أحب، فدفن في اعزاز – حلب في موكب مهيب من محبيه عسكريين ومدنيين”.
وأضاف بأمل: “نأمل اليوم الذي يتحقق فيه حلم الوطني الرائع محمد فارس بأن تتخلص سورية من الاستبداد والديكتاتورية وتنتقل انتقالاً ديمقراطياً حقيقياً”.
وكتب الشاعر “سيد أحمد بن محمد السيد” في رابطة أدباء الشام قصيدة بعنوان “دمعة وفاء ورثاء”، تتألف من 43 بيتًا، منها:
“حقًا ترجل فارس الشهباء؟
وقضى اللواءُ، ورائدٌ لفضاءِ؟
تبكيك ثورة أهلنا في سوريا
برجالها؛ أطفالها، ونساءِ
يبكيك أحرارٌ بها، وحرائرٌ
يبكيك أهلُ العزةِ القعساءِ
يبكيك كلُّ مهجرٍ من أرضها
يبكي لفقدك، كلُّ حرٍّ ناءِ
يا رائدًا صعد الفضاءَ موحدًا
لله في السراء، والضراء
يا داعيًا مولاك عند ملاحِدٍ
ولدى انطلاقِ مراكبٍ لفضاء!”
هذه الأبيات جسدت مكانة محمد فارس في قلوب السوريين كرمز للشجاعة والإباء، وموقفه الراسخ ضد الظلم والطغيان.
في ختام هذا الرثاء الذي جاء من أعماق القلوب، نتأمل مسيرة محمد فارس، الرجل الذي صعد إلى الفضاء وحمل معه طموحات وطن بأكمله، ليصبح رمزًا للشرف الوطني والتحدي. كان محمد فارس أكثر من مجرد رائد فضاء، فقد كان صوتًا للحرية والكرامة في بلد مزقته الديكتاتورية والقمع. إنه الرجل الذي رفض الانحناء أمام الظلم، واختار الوقوف بجانب شعبه في سعيه نحو التغيير، على الرغم من التهميش والمضايقات التي تعرض لها طوال حياته.
لو كان محمد فارس في بلد آخر، لكان قد تحول إلى رمز وطني لا يُنسى، بل ربما وضعت صورته على العملات والطوابع، تخليدًا لإنجازاته وشجاعته. لكنه في سوريا الأسد، دفع ثمن حبه لوطنه بسنوات من العزلة والتجاهل. ومع ذلك، ظل فارسًا بأخلاقه ومواقفه، مقاوماً لكل محاولات القمع والطمس، وظل رمزًا لنقاء الثورية التي لا تعرف الخنوع.
رثاه الشعراء والكتّاب بكلمات عميقة ومراثٍ مؤثرة، تذكّر الجميع بمكانته كابن بار لسوريا، الرجل الحر الذي وقف ضد طغيان الأسدَين، حافظ وبشار. اسمه سيبقى محفورًا في ذاكرة الأحرار، وسيظل مثالًا لكل من يؤمن بأن الحرية تستحق التضحيات. وفي النهاية، رحل محمد فارس جسدًا، لكن روحه ستظل رمزًا للكرامة والتحدي الذي سيبقى مصدر إلهام لكل الأجيال القادمة.