سالي علي – تفاصيل برس
في خضم الأزمات والتحولات السياسية التي تعصف بسوريا، يطفو على السطح خطاب التصنيفات والهويات الفرعية، حيث أصبح استخدام مصطلح “الأقلية” و”الأكثرية” أمرًا شائعًا في الخطاب العام.
لكن هل يمكن أن يكون الرقم مقياسًا للوجود؟ وهل يمكن أن تحدد أعداد الأفراد في أي مجموعة قيمتهم السياسية والاجتماعية والإنسانية؟
إنّ مفهوم “الأقلية” ليس مجرد وصف عددي، بل يحمل في طياته بعدًا سياسيًا واجتماعيًا، قد يتحول إلى أداة تمييزية أكثر منه توصيفًا حياديًا.
عندما يُقال عن فئة من المجتمع إنها “أقلية”، فإنّ ذلك لا يعني فقط أنها أقل عددًا، بل يتضمّن أحيانًا تلميحًا إلى الهامشية، أو حتّى إلى الحاجة إلى “حماية” خاصة، وكأنّها كيان منفصل عن النسيج الوطني العام.
وهنا تكمن المشكلة؛ فهل يُعقل أن يتم تصنيف المواطنين وفقًا لأعدادهم بدلًا من انتمائهم المشترك للوطن؟
هل الأقلية مذنبة حتى تثبت براءتها؟
إحدى الإشكاليات الكبرى التي تنشأ عن هذا التصنيف هي تحميل فئة معينة مسؤولية أخطاء المجموعة الأكبر أو ربطها بشكل تعسفي بسياسات لا تمثلها بالضرورة.
قد تجد نفسك، لمجرد انتمائك لفئة تُصنف كـ”أقلية”، متهمًا بأفعال لم تقم بها، أو مطالبًا بتوضيحِ مواقفك في كل منعطف سياسي، وكأن ولاءك للوطن مشكوك فيه بحكم قلّة عدد المنتمين إليك
وفي المقابل، تُمنح “الأكثرية” سلطة ضمنية تبرّر سلوكها وتوجهاتها تحت غطاء أنها تمثّل الإرادة العامة، بينما الحقيقة أنّ الأكثرية نفسها ليست كيانًا متجانسًا، بل تتوزع بين مختلف التيارات والأفكار والطبقات الاجتماعية
فهل يمكن حقًا اختزال المشهد السياسي والاجتماعي في معادلة عددية مبسطة، تقسيم الوطن إلى مجموعتين، إحداهما في موقع القوة والأخرى في موقع الترقب والضعف؟
التصنيفات الداخلية وغياب العدو الحقيقي
وسط هذا الانشغال بتقسيم المجتمع وفق أرقام وإحصائيات، يبرز التناقض الأكبر: لماذا يُكرّس هذا الجدل حول من هو “الأقل” ومن هو “الأكثر”، بينما يتم تجاهل المخاطر الخارجية التي تهدّد الجميع؟.
الكيان الصهيوني لا يزال ينهش أراضي سوريا من درعا إلى ريف دمشق، ومن الجولان إلى جبل العرب، دون أن نرى إجماعًا وطنيًا حقيقيًا حول هذه القضية الوجودية.
المفارقة أن الخطاب العام في سورية أصبح أكثر انشغالًا بمسألة “الأقليات” و”الأكثريات” على حساب الحديث عن الاحتلال الإسرائيلي.
إنه احتلال لا يفرّق بين مكونات المجتمع، ولا يعترف إلا بضعف الأمة وانقسامها.
فكيف يمكن لنظام سياسي أو نخبة فكرية أن تتجاهل قضية بهذا الحجم، بينما تستنزف طاقاتها في جدالات داخلية تساهم في المزيد من الانقسام؟
وهل يُعقل أن يصبح الخلاف الداخلي مادة للفرقة، بينما العدو الحقيقي يستفيد من كل شرخ في البنيان السوري؟
الهوية الوطنية فوق التصنيفات
إن استمرار استخدام تلك المصطلحات بهذه الطريقة لا يؤدي إلا إلى مزيد من التفكك الاجتماعي.
الوطن ليس حصيلة عمليات حسابية، ولا يجب أن تكون المواطنة امتيازًا عدديًا.
الهوية الوطنية لا تتحدد بعدد المنتمين لأي فئة، بل بقدرة الجميع على العيش المشترك تحت مظلة العدالة والمساواة والحقوق المتساوية.
إن كان لا بد من تصنيف، فليكن بين من يعمل لصالح سورية ومن يعمل ضدها، بين من يدافع عن سيادتها ومن يسعى لتفكيكها، وليس بين من ينتمي إلى مجموعة أقل عددًا ومن ينتمي إلى أخرى أكثر عددًا.
الأوطان تُبنى بالتكامل لا بالتجزئة، وبالعدالة لا بالأرقام، وبالهوية الجامعة لا بالتصنيفات الضيقة التي لا تخدم إلا من يريد تفتيت المجتمعات من الداخل.
قد يكون من الصعب كسر هذه المفاهيم المتجذّرة، لكنّ الوعي بها هو الخطوة الأولى نحو بناء وطن لا يُختزل في أرقام، ولا يُقسم وفق نزعات طائفية أو إثنية.
وطنٌ يقوم على مبدأ أنّ كل فرد فيه هو جزء أصيل من نسيجه، له كامل الحق في الحلم والمشاركة والانتماء، مهما كان اسمه أو عدده.