عبد الرحمن رياض – تفاصيل برس
عشنا خلال إقامتنا في تركيا تجربةً اجتماعية معقّدة ومليئة بالتحديات، خاصة في ظل تصاعد الهجمات العنصرية الممنهجة التي استهدفت السوريين والعرب بشكل عام. لم تقتصر تلك الحملات على الجانب اللفظي أو الخطابي، بل تطورت لتصبح حملات إعلامية ممنهجة تستهدف خلق رأي عام عدائي عبر فبركة أحداث أو تضخيم وقائع هامشية، وتحويلها إلى “ترندات” عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
لقد تبنّت بعض التيارات القومية واليمينية المتطرفة خطابًا عدائيًا ضد الوجود العربي والإسلامي في تركيا، وبدأت في استغلال أي حدث –مهما كان عابرًا أو غير مؤثر– لتأجيج الغضب الشعبي وتأليب الشارع على السوريين، باعتبارهم الحلقة الأضعف. والأسوأ من ذلك، أن هذه الحملات لم تميز بين الجنسيات، فكل عربي هو “سوري” في نظرهم، وكل سوري هو “مستفيد ومتعدٍ”، بل حتى الأكراد السوريون لم يُعاملوا على أنهم أكراد، بل كـ”سوريين غرباء”، دون أي اعتبار لهوياتهم الخاصة.
ولعل من أبرز الأمثلة على هذه الحملات حادثة تم تداولها بشكل واسع عن سيدة يمنية اقتنت بطة لتربيتها في منزلها، ثم عدلت عن الفكرة وقررت وضعها في إحدى الحدائق العامة. لكن وبدلًا من أن يُفهم تصرّفها كنوع من الرحمة تجاه الحيوان، تم التقاط صور لها على أنها “تسرق” البطة من الحديقة، وتحوّلت الواقعة إلى مادة للتحريض، وعبارات عدائية مثل: “هذه ليست سوريا، لا يمكنكم أخذ ما تريدونه مجانًا”.
كما ظهرت أيضًا نماذج أخرى أكثر فبركة، منها ما جرى في أنقرة، حيث اتهمت فتاة تركية شابًا أفغانيًا بأنه التقط صورًا لها وهي ترتدي ملابس جريئة. خلال لحظات، تجمّع الحشد، وبدأت عملية تفتيش علنية لهاتف الشاب وسط توثيق كامل من طرف المجموعة ذاتها، دون عرض أي دليل على ادعائها. بل وتحوّل الفيديو نفسه إلى “ترند” جديد يرسخ صورة المغترب المجرم والمتحرش. وعندما حاولنا الدخول إلى أحد المساحات التفاعلية على تويتر التي شاركت فيها الفتاة ذاتها، وسألتها بشكل مباشر: “هل لديكم صورة واحدة تثبت الادعاء؟”، لم يكن لديها أي رد واضح، بل تهربت وتلاعبت بالمداخلات، إلى أن تم منعي من متابعة الحديث.
ما نواجهه هنا ليس مجرد موجة غضب شعبية عفوية، بل صناعة للرأي العام تُدار بحرفية إعلامية عالية، حيث يتم افتعال قضايا مثيرة للجدل، وتوجيهها بذكاء نحو التأثير في المزاج الجمعي، ودفعه لتبني مواقف معينة ضد فئة مستهدفة. ولعلنا رأينا كيف تم استخدام حوادث مثل “ميرا العلوية” أو قضية “نادي ليالي الشرق” أو قضية ” مقتل راقصة في نادٍ آخر ” لإعادة تدوير خطاب الكراهية، وتحويل مسارات النقاش الاجتماعي إلى اتهامات سياسية وتحريض مباشر ضد الحكومة أو ضد مكونات اجتماعية بعينها، وكأن الهدف الخفي هو زعزعة الاستقرار الداخلي وتعطيل أي فرصة للتهدئة المجتمعية.
إن أخطر ما في هذه الظاهرة هو المنهجية الإعلامية التي تحوّل القصص اليومية إلى “فتائل” جاهزة لإشعال الفتنة، دون تحقق، ودون مساءلة، ودون اعتبار لتداعيات هذه المواد على تماسك المجتمع أو على سلامة الأفراد. إننا أمام حالة تتطلب يقظة حقيقية وفهمًا عميقًا لكيفية إدارة الإعلام الجديد، وكيف أصبح “الترند” أداة ضغط وتوجيه لا تقل تأثيرًا عن السياسة أو الأمن.
وعليه، فإن مسؤوليتنا –كأفراد ومؤسسات ومجتمعات– تقتضي الحذر من هذه الحملات الخبيثة، وعدم الانجرار وراء كل ما يُنشر، وضرورة المطالبة بمنصات تحقق مستقلة ورقابة رقمية صارمة، تحفظ الكرامة الإنسانية وتحمي المجتمع من الاستقطاب الذي يُصنّع بخبث في الظل.