عبد الرحمن رياض – تفاصيل برس
منذ أواخر القرن العشرين وحتى يومنا هذا، شكّلت العقوبات أداة مركزية في السياسة الدولية تجاه سوريا، عاكسةً تحولات جذرية في علاقات دمشق مع القوى الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة. فعلى مدى أكثر من أربعة عقود، لم تكن هذه العقوبات مجرد ردود فعل ظرفية، بل مثلت مسارًا طويلًا من الضغوط السياسية والاقتصادية التي ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالتغيرات الجيوسياسية في المنطقة، وبسلوك النظام السوري داخليًا وخارجيًا. يتناول هذا المقال سردًا تاريخيًا وتحليلاً معمقًا لمسار العقوبات المفروضة على سوريا منذ عام 1979 وحتى عام 2025، مستعرضًا سياقاتها السياسية وأدواتها القانونية وتداعياتها المتراكمة، بهدف تقديم فهم أشمل لأحد أكثر ملفات السياسة الدولية تعقيدًا وتأثيرًا في الشرق الأوسط الحديث.
جاء هذا القرار في ظل تصاعد التوترات الإقليمية والدولية، حيث اتُهمت دمشق بدعم عدد من التنظيمات التي تصنّفها واشنطن كمنظمات إرهابية، مثل منظمة فتح، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والجيش الأحمر الياباني. لم يكن هذا الاتهام وحده ما دفع واشنطن إلى اتخاذ هذه الخطوة، بل زاد من ذلك التحالف الاستراتيجي العميق بين سوريا والاتحاد السوفييتي في ظل الحرب الباردة، إضافة إلى تدخل الجيش السوري في لبنان منذ عام 1976 وتعاظم نفوذ دمشق في الشأن اللبناني، وهو ما أثار قلق الإدارة الأمريكية حينها.
نتيجة لهذا التصنيف، قطعت الولايات المتحدة مساعداتها الاقتصادية والعسكرية لسوريا، وفرضت قيودًا صارمة على تصدير السلع ذات الاستخدام المزدوج، ومنعت أي تعاون اقتصادي أو تجاري مباشر معها.
وفي عام 1986، تفاقمت الأزمة أكثر بعد حادثة تفجير طائرة TWA Flight 840، حيث اتهمت واشنطن جماعة مدعومة من النظام السوري بالمسؤولية عنها. وردًا على ذلك، قطعت الولايات المتحدة علاقاتها الدبلوماسية بالكامل مع سوريا، وفرضت حظرًا صارمًا على مبيعات الأسلحة وقطع الغيار، كما شددت الرقابة على التحويلات المالية والتقنية باتجاه دمشق.
بعد نحو عقدين، وتحديدًا في نوفمبر 2003، تبنّى الكونغرس الأمريكي “قانون محاسبة سوريا”، الذي مثّل تحولاً نوعيًا في بنية العقوبات. جاء هذا القانون على خلفية دعم سوريا للمقاومة العراقية ضد الوجود الأمريكي، ومساندة حركات مقاومة في لبنان وفلسطين مثل حزب الله وحماس، إلى جانب استمرار التدخل في الشأن اللبناني واتهامات أمريكية لدمشق بالسعي لامتلاك أسلحة دمار شامل.
نصّ القانون على حظر تصدير معظم السلع الأمريكية إلى سوريا (باستثناء الغذاء والدواء)، ومنع الرحلات الجوية بين البلدين، وتجميد أصول مسؤولين وكيانات سورية، كما قُيّدت الاستثمارات الأمريكية بشكل شبه كامل.
قد يهمك: متأثراً بقرار رفع العقوبات.. الذهب ينخفض 13% محلياً والأسواق في ترقب
في فبراير 2005، وبعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، وجهت واشنطن ومعها باريس أصابع الاتهام نحو دمشق، معتبرة أن للنظام السوري يدًا في العملية. تزايد الضغط الدولي حينها، فتمّ تجميد أموال شخصيات سورية بارزة، وفرضت قيود على إصدار تأشيرات دخول لعدد من المسؤولين، كما توسعت دائرة العقوبات لتشمل شركات سورية عاملة في قطاعات استراتيجية كالمصارف والاتصالات.
لكن التحول الأكبر والأكثر قسوة في بنية العقوبات جاء بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011. ففي مواجهة القمع الدموي الواسع ضد المتظاهرين، فرضت الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وكندا، وعدد من الدول الغربية، حزمة من العقوبات غير المسبوقة شملت شخصيات بارزة في النظام السوري، بمن فيهم الرئيس بشار الأسد وأفراد أسرته وكبار المسؤولين العسكريين والأمنيين.
امتدت العقوبات لتشمل المصرف المركزي السوري، وقطاعات النفط والغاز، وشركات الطيران والتجارة البحرية، أبرزها شركة “أجنحة الشام”. كما فرض الاتحاد الأوروبي حظرًا على بيع الأسلحة، وجمّد أصول أكثر من 200 شخصية سورية. وفي سياق متصل، علقت جامعة الدول العربية عضوية سوريا وفرضت قيودًا اقتصادية عليها.
وفي عام 2019، تم إصدار قانون “قيصر لحماية المدنيين السوريين”، الذي دخل حيّز التنفيذ منتصف عام 2020. استند هذا القانون إلى تسريبات موثقة لانتهاكات حقوقية مروعة، عُرفت باسم “صور قيصر”، والتي أظهرت تعذيبًا ممنهجًا داخل السجون السورية. وقد جاء القانون ليشكّل أداة ضغط واسعة النطاق تهدف إلى منع إعادة الإعمار قبل الوصول إلى حل سياسي حقيقي في سوريا.
اطلع على: حاكم مصرف سوريا المركزي: رفع العقوبات خطوة مفصلية نحو التعافي الاقتصادي والانفتاح المالي
بموجب هذا القانون، فُرضت عقوبات على كل شخص أو شركة تموّل أو تتعامل مع النظام السوري في مشاريع إعادة الإعمار، كما استهدفت العقوبات شركات روسية وإيرانية، إضافة إلى شركات طيران ومصارف وشركات طاقة. ويتميّز “قانون قيصر” بأنه يمتد أيضًا إلى أطراف ثالثة غير سورية تتعامل مع النظام، ما يجعل نطاقه عابرًا للحدود الوطنية.
ويمكن عند النظر إلى مجمل هذه العقوبات أن نُميّز بين نوعين رئيسيين:
أولاً، العقوبات التشريعية، وهي التي يُقرها الجهاز التشريعي مثل الكونغرس، وتتمتع بطابع قانوني صارم، ويصعب تعديلها دون المرور بإجراءات تشريعية جديدة. مثال على ذلك قانون محاسبة سوريا (2003).
ثانيًا، العقوبات التنفيذية، والتي تُصدرها الجهات الحكومية التنفيذية مثل وزارة الخارجية أو وزارة الخزانة، وتتميّز بمرونة عالية وسرعة في التطبيق والتعديل. وغالبًا ما تُستخدم لاستهداف أفراد أو كيانات محددة وفقًا لمتغيرات الواقع السياسي والأمني.
خلاصة القول إن العقوبات الأمريكية والدولية على سوريا لم تكن ثابتة أو عشوائية، بل تطورت وفق سياقات سياسية وأمنية متغيرة، وعكست في كل مرحلة طبيعة العلاقة بين النظام السوري والمجتمع الدولي. من تصنيفه كراعٍ للإرهاب في ثمانينات القرن الماضي، إلى قانون محاسبة سوريا في الألفية الجديدة، ثم إلى العقوبات الشاملة بعد الثورة، وصولاً إلى قانون قيصر، جميعها شكلت أدوات ضغط مركبة تهدف إلى تقويض سياسات النظام وممارساته، سواء داخليًا أو على الساحة الإقليمية والدولية.