لتسليط الضوء على ما يحدث في إيران مؤخراً، علينا العودة الى احتجاجات سابقة ومقارنتها مع ما يحدث اليوم ، في 1979 الثورة التي قامت آنذاك الوقت لا يمكن اختزالها ووسمها بالثورة الاسلامية فحسب ، لأن العديد من الحركات والأحزاب السياسية الهامة كان لها الدور الرئيسي في حدوثها ، وفي مقدمتها حزب توده اليساري ، حتى الأحزاب الدينية كحركة مجاهدي خلق في البدء لم تعارض مبادئ الدولة الدينية لكنها ما لبثت أن اختلفت مع الخميني وولايته المطلقة التي أسس لها فيما بعد . التي ترتكزعلى العداء ومناهضة الولايات المتحدة وإسرائيل والشعار الأبرز لها : الموت لأمريكا الموت لإسرائيل. إضافة الى سياستها المستمرة في انتهاك حقوق الانسان ، وملاحقة المعارضين واعدام الكثيرين وما زالت سياسة القمع هي العنوان إلى الآن.
من الممكن أن نستخلص من احتجاجات أربعة عقود مضت نتائج أربعة:
أولاً: منذ بداية تشكل الدولة الدينية إلى يومنا هذا أصبحت الاحتجاجات والحركات المناهضة لنظام الحكم أكثر انتشاراً وتوسعاً ، ومنذ العام الأول من عمر الدولة الدينية بدأت الحركات الاحتجاجية بالظهور ( الحركة النسوية المعترضة على قانون الحجاب الإلزامي في مارس 1980 ) مروراً باحتجاجات مدينة أراك ومشهد التي حدثت بعد أربعة عشر عام من قيام الدولة الدينية ،
في العقدين الأولين من عمر الدولة الدينية كانت الاحتجاجات محصورة إلى حد كبير في مدينة واحدة ، وبعد أربعة أعوام من احتجاجات مشهد ، حدثت احتاجاجات الحركة الطلابية 1998 اقتصرت المظاهرات حينها في جامعتي طهران وتبريز ، وظلت الاحتجاجات مقتصرة على هذا النمط والسياق ودون أي انتشار وسيع لها إلى أن حدثت الثورة الخضراء 2008 عقب الانتخابات الرئاسية واعتراض الاصلاحيين على نتائجها ، ولكنها أيضاً كانت مقتصرة الى حد كبير في العاصمة طهران ، لتتوقف الاحتجاجات بعدها ثمانية سنوات حتى أواخر 2017 لينزل الى الشاعر الآلاف وانتفضت العديد من المدن مطالبة بشكل علني بإسقاط النظام ، ومنذ ذلك الحين أصبح الاحتجاج ينفجر بأي لحظة ولأي سبب ، كما حدث مؤخراً نوفمبر 2019 رفع سعر البنزين شرارة أشعلت الشارع ضد النظام برمته .
في العقدين الأخيرين لم تقتصر الاحتجاجات على مدينة واحدة بل أخذت تنتشر أكثر فأكثر ، وعندما تخلتعن التبعية للجناح الإصلاحي وأخذت طابعاً وطنياً يلامس أوجاع الناس ، اتسع نطاق وصولها وقبولها بين شتى شرائح المواطنين.
ثانياً: خلال العقود الأربعة الماضية أصبحت الحركات الاحتجاجية في إيران يأخذ أغلبها طابعاً علمانياً ، بمعنى أنه لم يعد للعاطفة الدينية المذهبية وشعاراتها التأثير البالغ على الشارع ، السلطة تحتكر الدين بيدها وتسيء استخدامه والاستفادة منه فتطلق يدها بقمع المخالفين لها لمبررات دينية مذهبية ، إضافة إلى انفاقها الملايين من المال في بناء حوزات دينية ومقامات مذهبية وتمويل جماعات طائفية خارج حدودها بينما يعاني نصف شعبها من فقر مدقع وحياة مزرية ، سياستها هذه أدت الى نفور الشارع من الخطاب الديني الذي لم يعد يغنيه ويسمنه من جوع ، وهذا ما تجلى بوضوح خلال شعارات المحتجين التي دعت إلى اسقاط النظام الديني الطائفي ، وطرد رجالاته ، والتوقف عن نهب البلاد باسم الدين وارسال خيراتها الى مجموعات طائفية في الخارج.
ثالثاً: في العقدين الثمانينات والتسعينيات لم تكن الاحتجاجات تستهدف المؤسسات الدينية، ولكنها في العقدين الأخيرين وخاصة في السنوات الأخيرة تعرضت المؤسسات الدينية للهجوم والحرق مراراً وتكراراً باعتبارها أماكن دينية جوهرية تمثل النظام ومشروعه المذهبي ، وهذا يدلل بلا مواربة على أن الشارع الإيراني بعد أربعة عقود من الاحتجاجات أخذ يدرك أن عدوه الرئيسي هو هؤلاء الروحانيون رجال الدين ، وأدرك الشارع الإيراني جيداً أن العدو الذي ما فتئ نظام الحكم بمعاداته عبرشعارات ترتكزعلى نظرية المؤامرة والعداء للغرب وللمذاهب والملل الأخرى ، ليس بعدوه وإنما عدوه الحقيقي هو داخل البلاد “النظام الديني الطائفي” .
رابعاً: في العقدين الأولين كانت كل الحركات والأجنحة السياسية – بل كل شيء في البلاد- تنضوي تحت عباءة المرشد الأعلى ، ولكن مع مرور السنوات حدثت الهوة ، باتت تتسع حتى صار المحتجون يدعون صراحة إلى اسقاط النظام ، ففي الاحتجاجات العامين الأخيرين انهار حاجز الخوف وتلاشت كاريزما الإمام فمزق وأحرق المحتجون صوراً للخميني وخامنئي وتماثيل لهما ولافتات منتشرة في طول البلاد وعرضها تحتوي لأقوال لهما، النظام الإيراني الحالي ممثلاً بولي الفقيه خامنئي صاحب السلطة المطلقة ، يسيطر بشكل كامل على موارد البلاد كلها ويحتكرها ، وله ارتباطات وعلاقات مع سفارات خارجية ، ورجالاته لديهم مئات المليارت من الدولارات في الخارج، ويدير لوبياً قوياً في أوربا والولايات المتحدة، إضافة الى التهريب والسوق السوداء ، ولديه مجموعات مسلحة طائفية في كل من دمشق وبيروت وبغداد وصنعاء ، مع احتكار هذا النظام لكل شيء داخل البلاد ، وتوغله في الخارج ، تغدو الإطاحة به أمراً صعباً للغاية ، رغم هذا كله سقط القناع وعرف الشعب عدوه.