مصطفى النعيمي – تفاصيل برس
شهدت الساحة السورية تطورات دراماتيكية في أعقاب الانهيار المفاجئ للنظام السوري بتاريخ 8 ديسمبر/كانون الأول من عام 2024، وهو حدث هزّ الداخل السوري وأعاد خلط الأوراق على مستوى الإقليم والعالم أجمع.
جاء هذا الانهيار بعد سنوات من الصراع الدموي والمعاناة الاقتصادية والاجتماعية التي أنهكت مؤسسات الدولة، وفاقمت من التوترات الداخلية بين مكونات المجتمع السوري، مما أدى في نهاية المطاف إلى تفكك السلطة المركزية وفقدانها السيطرة على أجزاء واسعة من البلاد.
وقد أثار هذا التغير المفاجئ ردود فعل دولية متباينة، حيث تابعت الولايات المتحدة الأمريكية التطورات عن كثب، في ظل مخاوفها من احتمال أن يؤدي الفراغ السياسي إلى تصاعد نفوذ الجماعات المتطرفة أو تدخل أطراف إقليمية ودولية بشكل مباشر في الشأن السوري. كما عبّرت دول الاتحاد الأوروبي عن قلقها العميق إزاء تداعيات هذا الانهيار، لا سيما من ناحية موجات اللجوء المحتملة، وتزايد التهديدات الأمنية على حدودها الجنوبية.
أما إسرائيل، فقد تعاملت مع الحدث بحذر استراتيجي، نظراً لحساسية موقع سوريا الجغرافي وحدودها المشتركة، وارتباط الأمر بملف الجولان المحتلة وأمن الجبهة الشمالية، وقد كثفت إسرائيل من إجراءاتها الأمنية، ورفعت من حالة التأهب في صفوف قواتها، بالتزامن مع اتصالات دبلوماسية مكثفة مع واشنطن وبعض العواصم الأوروبية لتقييم الوضع وضمان عدم تعاظم نفوذ إيران أو حزب الله في حال حدوث فراغ أمني.
التموضع الإسرائيلي قبل اندلاع الثورة
قبل اندلاع الثورة السورية في 2011، اتسمت العلاقة بين إسرائيل والنظام السوري بشيء من “العداء المضبوط”. فعلى الرغم من الخطاب السياسي العدائي للنظام السوري تجاه إسرائيل، والتموضع السوري ضمن ما سُمّي بـ”محور المقاومة”، فإن جبهة الجولان بقيت هادئة لعقود. لم يكن هناك صدام مباشر مع إسرائيل منذ حرب 1973، كما حافظت دمشق على خطوط حمراء واضحة في تعاملها مع إسرائيل، ما جعل الأخيرة تعتبر النظام السوري رغم عدائه الظاهري إلا أنه نظامًا يمكن التنبؤ بسلوكه وضبط التوازن معه.
التموضع الإسرائيلي بعد اندلاع الثورة
مع انطلاق الثورة السورية، بدأ التموضع الإسرائيلي يتحرك وفق مجموعة جديدة من المحددات:
1. أمن الحدود والجولان: أولى إسرائيل أهمية قصوى لعدم تحوّل الجبهة الجنوبية في سوريا إلى ساحة مواجهة جديدة، ومع تمدد فصائل الثورة السورية، باتت إسرائيل أكثر حضوراً استخبارياً في الجولان، وسعت أحياناً للتأثير على بعض الفصائل الثورية لضمان “هدوء نسبي”.
2. مواجهة التمدد الإيراني: يُعد هذا المحدد الأهم في الاستراتيجية الإسرائيلية بعد 2013، حيث رأت إسرائيل أن بقاء الأسد يعني بقاء النفوذ الإيراني عبر الحرس الثوري وحزب الله في سوريا. لذلك، أطلقت إسرائيل سياسة “المعركة بين الحروب” التي تقوم على شن ضربات جوية ممنهجة ضد مواقع إيرانية أو تابعة لحزب الله داخل سوريا، بهدف منع التموضع العسكري الإيراني العميق وتحجيم نقل السلاح النوعي لحزب الله.
3. الحفاظ على تفوقها الجوي والاستخباري: من خلال التنسيق مع روسيا بعد تدخلها عام 2015، استطاعت إسرائيل أن تؤمن حرية حركة جوية نسبية داخل الأجواء السورية، بما لا يتصادم مباشرة مع مصالح موسكو، خاصة في محيط دمشق والجنوب السوري.
أما بعد سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر 2024، شنت إسرائيل حملة عسكرية واسعة النطاق في سوريا، استهدفت خلالها مئات الأهداف العسكرية بهدف تقويض القدرات الاستراتيجية السورية ومنع وقوع الأسلحة المتقدمة في أيدي جهات تعتبرها تهديدًا لأمنها.
حجم الضربات الإسرائيلية في سوريا
نفذت إسرائيل حوالي 480 هجومًا جويًا وبحريًا خلال يومين فقط بعد سقوط الأسد، مستهدفةً مواقع عسكرية في مختلف أنحاء سوريا، بما في ذلك دمشق وريفها، حمص، اللاذقية، ودرعا.
وشملت الضربات تدمير قواعد عسكرية، مطارات، أنظمة صواريخ أرض-جو، مستودعات أسلحة، منشآت لتصنيع الذخائر، ومخازن للأسلحة الكيميائية، وأدت الضربات إلى تدمير معظم مخزونات الأسلحة الاستراتيجية السورية، بما في ذلك الأسطول البحري السوري في ميناء اللاذقية، حيث تم تدمير زوارق وقطع بحرية مزودة بصواريخ بحر-بحر.
وتهدف تل أبيب من خلال الضربات إلى منع نقل الأسلحة من العراق إلى لبنان، وتسعى لمنع وقوع الأسلحة المتقدمة، مثل الصواريخ بعيدة المدى والأسلحة الكيميائية، في أيدي جماعات مسلحة مثل حزب الله أو تنظيمات أخرى قد تشكل تهديدًا لأمنها.
وسعت من خلال السيطرة على الحدود الفراغ الأمني الناتج عن سقوط نظام الأسد لتعزيز وجودها في المناطق الحدودية، خاصة في هضبة الجولان، حيث سيطرت على مناطق استراتيجية مثل جبل الشيخ، واستثمرت إعادة تشكيل الدولة السورية لفرض واقع عسكري جنوب سوريا، من خلال تدمير البنية التحتية العسكرية السورية وخلق منطقة عازلة خالية من التهديدات على حدودها الشمالية مع سوريا.
إضافة إلى الضربات الجوية، قامت القوات البرية الإسرائيلية بالتوغل داخل الأراضي السورية، حيث سيطرت على مناطق في جنوب غرب دمشق، بما في ذلك منطقة قطنا، ووصلت إلى عمق يصل إلى 25 كيلومترًا داخل الأراضي السورية.
احتواء دمشق للتموضع الإسرائيلي جنوب سوريا
يُعتمد الرئيس السوري أحمد الشرع، في المرحلة الانتقالية، على مجموعة من التكتيكات السياسية لمواجهة التحديات الإسرائيلية، مع التركيز على إعادة بناء الدولة وتجنب التصعيد العسكري المباشر.
حيث ركزت الجهود الدبلوماسية السورية على التمسك باتفاقية فض الاشتباك لعام 1974: وأكد الرئيس السوري على التزامه باتفاقية فض الاشتباك بين سوريا وإسرائيل لعام 1974، مشددًا على ضرورة انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها بعد سقوط نظام الأسد.
وشهدت وزارة الخارجية حراكا كبيرا لإعادة سوريا إلى مكانتها من خلال رؤية واضحة من حيث استثمار الحاجة الدولية لإعادة الاستقرار إلى سوريا لإقناع القوى الفاعلة في المجتمعين الإقليمي والدولي بالضغط المباشر على إسرائيل للحد من تدخلاتها في سوريا.
وشدد الرئيس السوري على رفض التصعيد العسكري مع إسرائيل مؤكدا على أن الوضع السوري اليوم لا يسمح بالدخول في صراعات جديدة، مشددًا على أن الأولوية هي إعادة البناء والاستقرار، وليس الانجرار إلى نزاعات قد تؤدي إلى مزيد من الدمار.
وعمل الشرع على تعميق الشراكة مع تركيا، مع طرح مشروع لاتفاقية دفاع مشترك بين البلدين، لتعزيز قدرات الجيش السوري الجديد في مواجهة التحديات والمخاطر.
كما اعتمد الشرع على الخبرات السورية في تصنيع الأسلحة، بما في ذلك قذائف الدبابات والطائرات المسيرة، لتعزيز القدرات الدفاعية والهجومية دون الاعتماد على سلاسل التوريد الخارجي.
ومن خلال هذه التكتيكات، يسعى الرئيس السوري إلى تحقيق توازن بين الحفاظ على السيادة السورية، وتعزيز الاستقرار الداخلي، وتجنب التصعيد مع إسرائيل، مع التركيز على إعادة بناء الدولة السورية بعد سنوات من الصراع.
وبالتزامن مع التطورات المتسارعة في الساحة الإقليمية والدولية، تبرز المملكة العربية السعودية كفاعل رئيسي مؤهل للعب دور محوري في إدارة الملف السوري، مستندة إلى مكانتها السياسية والدينية والاقتصادية، وسعيها لتعزيز الاستقرار في المنطقة. وفي ظل الانفتاح الدبلوماسي الأخير وإعادة التواصل مع دمشق، يمكن للسعودية أن تتخذ عددًا من الإجراءات الاستراتيجية لترسيخ دورها القيادي في هذا الملف.