عبد الرحمن رياض – تفاصيل برس
تشهد الساحة السورية في الأيام الأخيرة تسارعًا غير مسبوق في الأحداث السياسية والعسكرية، مما يوحي بأن المنطقة باتت على أعتاب مرحلة مفصلية. هذه التحوّلات لا يمكن فصلها عن الديناميكيات الإقليمية والدولية، ولا سيما أن سوريا، بعد إسقاط النظام البائد وصعود حكومة جديدة ذات رؤية براغماتية بقيادة الرئيس أحمد الشرع، أصبحت محور اهتمام إقليمي ودولي متجدد.
وبينما تشتد المفاوضات والضغوط في ملفات متعددة داخلية وخارجية، يظهر ملف قوات سوريا الديمقراطية (قسد) كأحد أكثر الملفات حساسية وتعقيدًا، ليس فقط في سياق الدولة السورية الجديدة، بل على مستوى علاقات الجوار واصطفافات القوى الدولية.
قسد.. من أداة ابتزاز إلى عبء استراتيجي
في الماضي، كان ملف “قسد” بمثابة ورقة مساومة بيد النظام البائد، تُستخدم لابتزاز تركيا، بدعم أمريكي مباشر. ومع تغيّر التوازنات، تحوّلت هذه الورقة إلى عبء لا على سوريا فقط، بل على عموم الإقليم. ويبدو أن إسرائيل، التي لطالما استفادت من زرع الكيانات العرقية لتفكيك الجغرافيا السياسية في المشرق، تحاول اليوم استخدام ما تبقى من هذا الملف كورقة تفاوض، لكن المتغيرات الدولية لا تسير وفق ما تشتهي تل أبيب.
فمع دخول تركيا على خط الحسم العسكري المباشر، وتهديدها الصريح لقسد بضرورة الانسحاب أو حل نفسها قبل موعد نهائي هو يوم السبت القادم، تدخل المنطقة في منعطف حساس من حيث الخيارات العسكرية والدبلوماسية.
رفع العقوبات البريطانية.. إشارة دولية جديدة؟
في توقيت لافت، أعلنت بريطانيا رفع العقوبات عن وزارتي الداخلية والدفاع وجهاز المخابرات العامة في سوريا، بالتزامن مع توجه وفد وزاري اقتصادي سوري إلى اجتماعات الربيع لصندوق النقد والبنك الدولي، وهو ما يشير إلى تحوّل غربي تدريجي في الموقف من الدولة السورية الجديدة. ويعزز ذلك أيضًا سفر وزير الخارجية الشيباني إلى واشنطن لحضور مؤتمر دبلوماسي رفيع يُنظر إليه على أنه أولى خطوات “شرعنة” النظام الجديد في المحافل الدولية.
رفع العقوبات لا يُقرأ كإجراء فني فحسب، بل كـ”مؤشر سياسي” على توجه الغرب لإعادة الانخراط مع دمشق، وتجاوز مرحلة العزل السياسي، خاصة بعد التفاهمات غير المعلنة بين بعض القوى الكبرى حول مستقبل التوازن في الشرق الأوسط.
الانسحاب الأمريكي من الحسكة.. إنهاء للغطاء أم بداية لتفاهمات؟
الانسحاب الأمريكي من قواعده في الحسكة – هذه المرة بأرتال ضخمة وأسلوب منظم – يطرح تساؤلات حول طبيعة الاستراتيجية الأمريكية الجديدة شرق الفرات. فهل هو انسحاب تكتيكي مرحلي؟ أم أنه بداية لتفكيك التحالف مع “قسد” استعدادًا لتسوية أشمل مع دمشق أو مع أنقرة؟
التقاطع الزمني بين هذا الانسحاب والتصعيد التركي ضد “قسد”، وكذلك لقاءات قيادات “قسد” (مظلوم عبدي وإلهام أحمد) في كردستان العراق مع زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني، يشير إلى أن “قسد” تبحث الآن عن مخارج سياسية ودبلوماسية أخيرة قبل فقدان كامل الدعم الدولي.
سوريا الجديدة وملف الأمن القومي
القيادة الجديدة في دمشق تدرك أن استمرار الكيانات الميليشياوية ذات البُعد العرقي يشكل تهديدًا مباشرًا لوحدة الأراضي السورية، ويمنح إسرائيل نافذة دائمة للتدخل والتأثير، سواء عبر دعم الانفصاليين أو عبر توظيف الهشاشة الأمنية لتمرير أجنداتها.
من هنا، فإن إنهاء ملف “قسد” أو إعادة دمجها ضمن مؤسسات الدولة، شريطة تقديم تعهدات واضحة بعدم العودة إلى السلاح والانخراط الكامل في البنية الأمنية والعسكرية الوطنية، قد يُشكّل خطوة محورية على طريق الانتقال نحو مرحلة جديدة من التعافي الوطني. هذه الخطوة قد تفتح الباب أمام إطلاق عملية إعادة الإعمار المنتظرة، وتُمهّد لفتح قنوات التمويل الدولي التي بقيت مغلقة لأكثر من عقد بسبب طبيعة الصراع وتعقيداته، كما أنها تساهم في كسر الحصار السياسي المفروض على سوريا، وتُعيد ترتيب أوراق الشرعية الدولية لصالح الدولة الجديدة. وفي السياق نفسه، فإن فرض الاستقرار الأمني في الداخل يُعد البوابة الطبيعية لتحقيق الاستقرار السياسي، ومن ثم الانتقال نحو نهوض اقتصادي تدريجي وشامل.
على الصعيد الإقليمي والدولي، تبرز مؤشرات متزايدة على أن الديناميكية الدولية باتت أكثر استعدادًا للتعامل مع واقع جديد يتشكل في سوريا. ويُستدل على ذلك من خلال عودة العلاقات الرسمية مع جامعة الدول العربية، وتمثيل سوريا في القمة الوزارية في القاهرة، إلى جانب زيارات رسمية لوزراء سوريين إلى واشنطن وفتح قنوات دبلوماسية جديدة في عواصم القرار الدولي. كما يظهر انفتاح تركي مشروط على تسوية شاملة تتضمن تأمين الحدود الجنوبية ودمج الفصائل العربية والكردية ضمن مؤسسات الدولة، وهو ما يُعزز فرص احتواء النزاعات الجانبية وتحقيق اندماج وطني متوازن. وفي الوقت نفسه، يلاحظ تراجع تدريجي في مستوى التأثير الأمريكي في شمال شرق سوريا، مقابل صعود أدوار إقليمية أكثر اتساقًا مع الواقع الجغرافي والسياسي للمنطقة، الأمر الذي يفتح الباب أمام ترتيبات جديدة أكثر استقرارًا واستدامة.
في الختام يبدو أن عجلة التغيير السوري باتت تدور بسرعة غير مسبوقة، وملف “قسد” في طريقه إلى الحسم، سواء عبر تسوية سياسية (إعادة الاندماج) أو حسم عسكري (تركياً أو سورياً أو مشتركاً).
ومع التغير في المواقف البريطانية، والزيارات الرسمية لواشنطن والقاهرة، فإن الرسالة الدولية باتت واضحة:
لا مكان في سوريا الجديدة لكيانات انفصالية أو ميليشياوية.
بل هناك مسار واضح نحو فرض الدولة، استعادة السيادة، وإعادة سوريا إلى الخارطة السياسية بقوة وعقلانية.
- باحث سياسي واقتصادي