عدنان عبد الرزاق – العربي الجديد
يطل الاقتصاد والمصالح حائلاً حتمياً، حتى الآن، من دون اندلاع حرب مباشرة أو قصف جوي متبادل، بين تركيا وإسرائيل، إثر استفزازات وحرب كلامية، كادت مراراً أن تشعل منطقة الشرق الأوسط بحرب، قد لا يكون خلالها وما بعدها كما قبلها، لأن أهداف تل أبيب، المدعومة أميركياً وبعض أوروبياً، تتمثل بإعادة رسم المنطقة. والتطلع التركي إلى قوة عالمية ولتكون أنقرة عراب المنطقة برمتها، سيحيل المواجهة إلى حرب واسعة إن لم نقل بملامح عالمية.
وحتى اليوم ورغم التفكير في آثار تلك المواجهة، المرشحة للتوسع، على اقتصاد البلدين وبُناهما، مشفوعة بالتبريد الأميركي والأذربيجاني، لم يزل التوتر سيد الموقف، والتحشيد لفرض الهيمنة على سورية، كأنه صاعق أزمة تلوح بالأفق مرة وتخبو مرات.
ولكن، يخطئ من يرجّح بالمطلق نشوب حرب تقليدية ومباشرة، بين تركيا وإسرائيل على الأرض السورية، رغم التوترات الأخيرة على خلفية أحداث جنوبي سورية، وادعاء تل أبيب حماية مكوّن سوري (الدروز) وقصف مواقع سورية، في أربع محافظات منها دمشق وغير بعيد عن القصر الرئاسي الذي يقيم فيه أحمد الشرع. بعد قصف، الشهر الماضي، ثلاثة مواقع (قاعدة تي فور وتدمر ومطار حماة)، والتي تفقدتها تركيا لنشر قوات تابعة لها، بهدف تأهيل القوات السورية وحماية الجو، فسبقها سلاح الجو الإسرائيلي ليفشل الخطة ويحرج أنقرة، معلناً أنها “رسالة واضحة وتحذير للمستقبل”، متذرعاً أن الوجود التركي سيمس أمن إسرائيل، لأن نية أنقرة هي أن تكون سورية محمية تركية.
لأن تلك الحرب، إنْ نشبت، فستطاول آثارها استقرار المنطقة برمتها واقتصادها، ولن تسلم حتى واشنطن من شررها، وهي بتوقيت غير مناسب البتة لمشاريع دونالد ترامب المتضاربة وحروبه الاقتصادية على الصين والاتحاد الأوروبي ودول العالم، هذا إن لم نذكر أن تركيا عضو بحلف “ناتو” أو نزج بعلاقة الرئيس الأميركي بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
كما يخطئ من يستبعد وبالمطلق، الاصطدام التركي الإسرائيلي، حتى العسكري، على الأرض السورية، بحال استمرت تل أبيب بتحديها تركيا وضرب مصالحها وتطلعاتها بسورية، أو تمادت بانتهاك سيادة سورية، ونزلت من الجو إلى الأرض، لتزيد قضم جغرافيا جنوبي سورية، لتنفذ ما يقال عن مشروع “ممر داوود”.
وذلك فضلاً على أن توقع تصرفات رئيس الوزراء الإسرائيلي مستحيلة، بواقع الدعم الدولي المطلق والتمادي غير المسقّف أولاً، ولبحثه عن إطالة عمر حكومته واستبعاد محاكمته ولو أشعل المنطقة أو أحرج واشنطن ثانياً، ولأن، وربما هذا الأهم، أن وجود تركيا بسورية وتنفيذ اتفاق “دفاع عسكري” سيجعل تركيا مكان الولايات المتحدة، بعد خروج روسيا وإيران، وسيحول دون خطة إسرائيل إرساء معادلة عسكرية جديدة في سورية بوصفها أمراً واقعاً، تتسيّد خلالها الجو وتمنع تشكيل قوة عسكرية سورية، تهدد أمنها المستقبلي.
التقاط اللحظة السورية
ورغم أن حرباً بهذا الخطر والحجم، تحتاج إلى قرار واصطفاف دولي لتنشب، إلا أن قصفاً إسرائيلياً مفاجئاً، لتمثيل تركي على الأرض السورية، أو للأراضي التركية ذاتها، قد يشعلها لتكون نهاية ملامح المنطقة وتوزع نفوذها وحتى تفتيت جغرافيتها.
قصارى القول: ربما بيضة القبان، بنشوب الحرب من عدمها هو الاقتصاد. ودور الاقتصاد هنا، لا يقتصر على استمرار القطيعة أو رفع تركيا قيود التجارة عن إسرائيل أو عودة العلاقات التي قطعتها في مارس/ آذار 2024، بوصفها أول دولة في المنطقة تفعل ذلك بعد الحرب على غزة، فحجم التبادل التجاري كان يزيد عن 10 مليارات دولار، إنما يمتد إلى ما في سورية من ثروات، فوق الأرض وتحتها، على اليابسة وتحت مياه المتوسط. وعلى الفرص الاستثمارية وعقود إعادة الإعمار ببلد مهدم، يعتبر النفوذ عليه، فرصة لن تتكرر لكلا الطرفين اللذين يجد كل منهما بنفسه عراباً لواشنطن أو وكيلاً حصرياً لها في المنطقة.
إن الاقتصاد وبوجهيه، عامل حرب أو منعها، عنصر فاعل لتركيا التي سعت ودفعت تكاليف باهظة، حتى توسع نفوذها في ثماني دول بالمنطقة، لتتحكم في خطوط الطاقة والغاز شرقي المتوسط، أو لإعاقة مشاريع إسرائيل من مد خط أنابيب غاز تحت الماء، على الأقل، ضمن أمانيها بالسيطرة على تجارة الغاز ونقله مع أوروبا.
وأيضاً الاقتصاد بيضة القبان لتعدّ أنقرة وتل أبيب للعشرة، قبل التهور بمواجهة عسكرية، لأن كلا البلدين يبتعدان عن كل ما فيه خسائر وزيادة نفقات يمكن إرجاؤها.
فإسرائيل التي كبدتها الحرب على غزة، أكثر من 41 مليار دولار وزادت العجز بموازنتها عن 7%، تحرص كل الحرص على الحيلولة دون مزيد من الاستنزاف وهروب الاستثمارات والسياح، وحتى المهاجرين للكيان المصطنع، لأن الحرب مع ثاني أكبر جيش بالناتو وما تملكه تركيا من أسلحة، ليست نزهة وقد لا تبقي، من منشآت وبنى واستقواء، ولا تذر.
في المقابل، تركيا التي تسعى لاستعادة نسب النمو المتراجعة وتحسين بيانات التضخم والبطالة وتطبيق برنامجها الاقتصادي الطموح على الأرض، تستبعد المجازفة، ما أمكن، بحرب ستخلط جميع أوراقها وتحالفاتها ووعود واشنطن لها، وستؤجل، إن لم نقل تلغي، أحلامها بدخول نادي العشرة الكبار وتعيدها إلى ما قبل 2002 من استهداف وفقر وديون، وهي التي عادت لـ”صفر مشاكل” ونسفت لاءات الماضي، بما فيها الفائدة المرتفعة وعدم مد اليد إلى المؤسسات المالية الدولية.
تبدل النهج الأردوغاني
نهاية القول: الخلاف في سورية وحولها، بين تركيا وإسرائيل، شاسع ولن تحله لقاءات أمنية لتفاهمات فنية في أذربيجان أو حتى “نصح دبلوماسي” أسداه الرئيس الأميركي، خلال زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي واشنطن الشهر الماضي.
فالقصة للأسف والوجع أن النظرة الإسرائيلية إلى سورية المريضة تأتي كأنها مغنم وسيطرة، أو أن تبقى هشة ممزقة بين دويلات طائفية وكانتونات حكم ذاتي، وليس تقاسم نفوذ مع تركيا، والتي بدورها، تسعى وتؤكد حرصها على سورية الواحدة الموحدة والمساهمة بنهضتها، لأن الاستقرار فيها سيكون مفتاحاً للاستقرار في المنطقة برمتها، ويفتح فرصاً وآفاقاً جديدة للتعاون الإقليمي.
ذلك يبقي ملامح المواجهة مفتوحة، وعلى سيناريوهات عدة، بما فيها حرب عبر وكلاء تدعمهم أنقرة، إن لم تخرج واشنطن عن النصح والحياد، وتتدخل مع أذربيجان التي لها علاقة طيبة بالطرفين، لحل بين أنقرة وتل أبيب، ربما يكون حلاً شاملاً لسورية أيضاً، منطلقه المصالح المتبادلة وربما منتهاه “تجرّع سم التطبيع” الذي يبعد سورية عن التقسيم والحرب الأهلية التي تتزايد ملامحها تباعاً، ريثما تستعيد دمشق، ولو بعض ملامح القوة، الاقتصادية وغير الاقتصادية، والتي بددها نظام الأسد المخلوع، وأجهزت إسرائيل، بعد هروبه، على ما تبقّى منها.
هذا المقال منقول عن صحيفة العربي الجديد وهو ملكها، وتم نقله حرفياً