تسعى الصين بشكل متعاظم أن ترفع من تصنيفها العالمي من مصاف القوّة الإقليمية الأكبر في آسيا، إلى مقام الدول الكبرى المهيمنة في العالم مقارَنةً بالولايات المتحدة – الخصم اللدود، وقد أطلقت بكين في دائرة تلك المساعي مبادرة “الحزام والطريق” في العام 2013.
تغطي هذه المبادرة ما يزيد على /85/ دولة، وما نسبته /65/% من سكان العالم، الأمر الذي ساعد على إدراجها ضمن كبرى مشاريع البنية التحتية والاستثمار في التاريخ بما يشمل قطاعات التعليم، ومواد البناء، والسّكك الحديديّة والطرق السريعة، والسيارات والعقارات، وشبكات الطّاقة والحديد والصلب.
للمبادرة كما يشير اسمها مساران: الأول برّي (الحزام) والثاني بحري (الطريق)، وللمسارين أهداف جيوسياسية أبعد بكثير من ظاهر المبادرة في إحياء طرق التجارة القديمة البحرية والبرية؛ فهي لا تتعلق بالتجارة والاستثمار وحسب، بل ستتجاوزها نحو التأسيس لتحالفات دولية جديدة تعتمد على الكتلة البشرية الضخمة التي تنضوي تحت مظلة المبادرة، ما يضمن للصين هدفها البعيد المدى في ولوجها حلبة الدول الكبرى المؤثرة، وتحقيق التوازن الاستراتيجي مع أوروبا عامة والولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص.
دول الاتحاد الأوروبي لا تخفي قلقها من امتدادات الصين وغاياتها لاسيما أن “الحزام والطريق” يعتريها الكثير من الغموض الذي تختفي وراءه رغبة جامحة صينية في السيطرة المطلقة؛ فالمبادرة ستُلحق حيزاً واسع النطاق من البنية التحتية في أوروبا الشرق والوسط تحت المظلة الصينية. فها هو مرفأ بيرايوس في اليونان – أحد أهم المرافئ في العالم – قد انتقل إلى يد الصين في العام 2016، ما دقّ جرس الإنذار في العديد من دول أوروبا النافذة اقتصادياً مثل فرنسا والدانمارك وألمانيا. وقد سبق أن عبّرت ألمانيا عن قلقها على لسان وزير خارجيتها الأسبق، زيغمار غابرييل، حين قال: “ستنجح الصين في تقسيم أوروبا إذا لم تكن لدينا استراتيجية موحّدة للوقوف بوجهها”.
أما الولايات المتحدة الأمريكية، فلا زيادة لمستزيد في سخطها على الصين والحزب الشيوعي الحاكم فيها، وقد تبدّى الغضب الأمريكي بأخطر صوره في الأسبوع الفائت حين تم إغلاق القنصلية الصينية في هيوستن – تكساس إثر اتهام واشنطن بأن القنصلية طرف من شبكة تجسس صينية واسعة على أراضي الولايات المتحدة تستخدم مرافق دبلوماسية (قنصليات صينية في /25/ مدينة أمريكية).
وأعلنت وزارة الخارجية الأمريكية رسمياً أن الإغلاق تمّ “من أجل حماية الملكية الفكرية الأمريكية والمعلومات الخاصة”. وقد سبق هذه المواجهة المباشرة الدبلوماسية تدهور لافت للعلاقات بين البلدين إثر اتهام واشنطن الصين بمسؤوليتها عن انتشار جائحة كوفيد 19 وإخفائها المعلومات عن طبيعة المرض والمريض (رقم 1)، ناهيك عن الحرب التجارية بينهما وانتقادات واشنطن اللاذعة لانتهاكات بكين المستمرة لحقوق الإنسان في هونغ كونغ.
الانتخابات الأمريكية على الأبواب، وهناك تعقيدات كثيرة تعتري موقف الرئيس ترامب في سياق حملته الانتخابية ويستعملها منافسوه من الحزب الديمقراطي لتقويض صورته ودفع الناخب الأمريكي للامتناع عن التصويت له لفترة رئاسية قادمة، وفي مقدمة الأسباب التي يسوّقها المعسكر الديمقراطي هي طريقة تعامل الرئيس مع الجائحة التي أودت حتى تاريخ كتابة هذه السطور بحياة /148/ ألف مواطن أمريكي وأصابت /4/ ملايين منهم. وفي حين يجزم الرئيس ترامب بمسؤولية الصين وحدها عن انتشار فيروس كورونا المستجدّ المسبب للجائحة، سيجد في الأمر فرصة مزدوجة للانقضاض على الصين، من جهة لمسؤوليتها عن موت مئات الآلاف من الأمريكيين متأثرين بالجائحة، ومن جهة أخرى لتحسين موقفه الانتخابي والظهور بموقف الحامي القوي لبلده في وجه التغوّل الصيني العالمي على المستويات السياسية والاقتصادية والحقوقية كافّة.
وقد يكون التقارب الصيني مع إيران هو مفتاح ترامب الذهبي لتمكين موقعه في خضمّ عاصفة الانتخابات الرئاسية والضرب بما تسنّى له من أدوات لعصفوين بحجر واحد. فبكين وطهران اللتان تؤرّقان البيت الأبيض، تدخلان في اتفاق ضخم تم الإعداد له منذ زيارة الرئيس الصيني لطهران في العام 2016، ويتضمن استثمارات ضخمة في البنية التحتية وفي ملفات الدفاع وتبادل المعلومات الاستخبارية، وكذا الاستثمار الميسّر في حقلي النفط والغاز. هذا الاتفاق يبدو بصورة جلية في مبادرة الحزام والطريق حيث إيران حاضرة بقوة ضمن خارطة المبادرة بينما تم استثناء معظم المرافئ العربية والخليجية.
فصل المقال يقع في التصعيد الذي تمارسه واشنطن في المواجهة المباشرة مع الحلف الصيني – الإيراني المستجدّ، سواء مع بكين في معركتها القنصلية الأخيرة على الأرض، أو في الأجواء السورية حين اعترضت مقاتلات أمريكية طائرة ركاب إيرانية تابعة لشركة “ماهان” للنقل المدني التي تقع تحت العقوبات الأمريكية لنشاطها المشبوه في نقل المقاتلين والسلاح عبر استخدامها لخطوط الطيران المدني.
فهل سيدفع الرئيس ترامب هذا التصعيد بعيداً ليتحوّل إلى مواجهة أشرس مع العدويّن، مواجهة ستكون ورقة “الصولد” التي يرميها إلى الطاولة في اللحظات الحرجة من الانتخابات لتمكين فوزه وحزبه الجمهوري بفترة رئاسية قادمة؟ أتساءل.