محمد الصطوف – تفاصيل برس
من يراقب الحراك السياسي والدبلوماسي السوري منذ إسقاط نظام الأسد، أواخر عام 2024، يلاحظ بوضوح أن دمشق لم تعد تقف في موقع المتلقي السلبي للتطورات، ولا في موقف من ينتظر منحه “فرصة” للحكم. بل على العكس، تظهر القيادة الجديدة، ممثلة بالرئيس السوري أحمد الشرع وفريقه، كفاعل أساسي يعيد تموضع سوريا في الإقليم، وفق معادلات جديدة تقوم على المصالح والمقايضة المتبادلة، لا على الخطاب الأيديولوجي أو التبعية السياسية.
ليس سراً أن التحولات الجارية اليوم على الساحة السورية، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بإعادة تقييم إقليمي ودولي للموقع السوري، انطلاقاً من مجموعة من الملفات الحساسة، أولها الملف الأمني.
لقد باتت دمشق تمسك بعدد من الخيوط الدقيقة التي تؤثر بشكل مباشر على استقرار الشرق الأوسط، من معابر التهريب، إلى سلاح الميليشيات، وصولاً إلى مسارات المقاتلين الأجانب.
لذلك لم يعد السؤال المطروح دولياً: “هل تستحق دمشق فرصة؟”، بل: “كيف يمكن أن ننسق مع دمشق الجديدة لضمان مصالحنا؟”.
في هذا السياق، تقول صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية في تحليلها مطلع 2025: إن “دمشق لم تعد مجرد عنوان لصراع داخلي، بل طرف رئيسي في معادلات أمنية إقليمية معقدة، تشمل الجريمة المنظمة العابرة للحدود، ومكافحة الإرهاب، وضبط تدفقات اللاجئين”.
وهذا ما يتقاطع مع ما تطرحه الحكومة السورية من حلول واقعية: إدماج الفصائل غير المنضبطة في مؤسسات الدولة، وتفكيك البنية العشوائية للسلاح خارج السيطرة، وهو ما ينظر إليه في العواصم الغربية على أنه “الخيار الأقل كلفة”، بحسب وصف Le Monde الفرنسية.
وإلى جانب الملف الأمني، هناك معضلة اللاجئين التي تؤرق أوروبا، وتضعها في موقف هش داخلياً، فالدول الأوروبية، التي باتت تواجه ضغوطاً شعبية وسياسية متزايدة، تدرك أن دعم الاستقرار في سوريا هو أقصر طريق لوقف موجات اللجوء، بل وربما لإعادة أعداد من اللاجئين طوعاً إلى بلادهم.
كما نقلت شبكة DW الألمانية مؤخراً، عن مسؤولين أوروبيين قولهم: إن “الرهان على تسويات جزئية في سوريا لم يعد مجدياً، وإن التفاهم مع دمشق الجديدة بات ضرورة سياسية وأمنية”.
من جهة أخرى، تشكّل ملفات الاستثمار وإعادة الإعمار، ورقة قوة إضافية في يد الحكومة السورية، فالأراضي السورية تضم ثروات نفطية ومعدنية غير مستثمرة، إضافة إلى موقع جغرافي يجعل منها معبراً رئيسياً في مشاريع الطاقة والربط الإقليمي.
وهو ما أشار إليه تقرير صادر عن Bloomberg في مارس 2025 (شركة أمريكية خاصة رائدة في مجال المعلومات المالية والإعلام)، متوقعاً أن تتحول سوريا إلى “بيئة استثمارية واعدة في حال توافر الحد الأدنى من الاستقرار المؤسسي والسياسي”.
أما فيما يتعلق بإسرائيل، فإن المشهد يبدو أكثر تعقيداً، فالغرب، وإن أبدى تفهماً لمخاوف تل أبيب الأمنية، إلا أنه بدأ ينزعج علناً من القصف المتكرر داخل الأراضي السورية، والذي يعيق جهود إعادة توحيد البلاد.
وهو ما عبّر عنه تقرير BBC الذي نقل عن دبلوماسيين أوروبيين انتقادات لسياسات “الضربات الاستباقية” الإسرائيلية باعتبارها تعطل المسار السياسي وتضعف فرص فرض الدولة السورية سلطتها على كامل ترابها.
وفي النهاية، فإن ما يميز المشهد السوري حالياً ليس فقط حضور خطاب عقلاني براغماتي من دمشق، بل استعداد جزء كبير من المجتمع الدولي للتعاطي معه بجدية، إذ لم يعد هناك من يعيد التذكير الدائم بخلفية الشرع أو فريقه، فالجميع يدرك ماضيهم ويختبر حالياً صدقهم في العمل من أجل المستقبل، وهنا يكمن التحول الحقيقي.
الأسئلة الكبرى التي يجب أن تُطرح اليوم، ليست حول أهلية هذه السلطة أو شرعيتها، بل حول مدى جهوزية العالم لبناء شراكة واقعية مع سوريا جديدة، تتقاطع مصالحها مع استقرار الإقليم، بعد أن أخفق العالم نفسه – لسنوات – في حسم ملفات إدلب والفصائل، والميليشيات العابرة للحدود.
ربما فات أوان التدخل الحاسم حين كان ممكناً، ولكن لم يفت الأوان على إعادة بناء رؤية سياسية جديدة تجاه دمشق، تقوم على العقلانية لا على الوهم.