للديمقراطية أوجه متعدّدة لعلّ أهمها ومن أولوياتها هو الوجه الثقافي. الديمقراطية بهذا الوجه هي الحوار.. إمكانية إجراء الحوار.. فتح الأبواب كافة أمام الجميع للاشتراك في الحوار وتبادل الرأي. والحوار الحقيقي ليس بأن تدع الآخر يقول وجهة نظره فحسب، بل أن يتمكّن من تنفيذها أيضاً. ولا ريب في أنّه لا يمكن أن يتم الحوار إلاّ عندما تتساوى الأطراف المتحاورة.
وهذا يعيدنا إلى وجوب توافر الوجهين الآخَرين للديمقراطية: السياسة، والاقتصاد. إنّ الديمقراطية الفكرية حوار عقلاني بين الحريات، إلاّ أن هذا الحوار يجب ألاّ يتحوّل إلى صراعات ايديولوجية، فيتحدث كل طرف من مفاهيم جاهزة مسبقاً تنطلق من قوالب يجري تفصيل الأشياء عليها.
والديمقراطية الفكرية تعني السماح للآخر بالتفكير وفق ما يناسبه، وتبنّي ما يراه صحيحاً، والمناقشة فيه. ولا يخرج عن ذلك وجوب نشر التعليم كي يتكامل تحقيق الوجه الفكري للديمقراطية، لأنّ الإحجام عن نشر العلم لا يقل استبداداً عن توجيهه وفق منظور ايديولوجي مقنّن.
في الحقيقة إنّ غياب احد أوجه الديمقراطية يعني تشويهها، وبالتالي، تزييفها ومن ثمّ إفراغها من المضمون. وربما أمكن، حتّى نسدّ الطريق على أيّ سوء تفاهم محتمَل، تسمية هذه الديمقراطية (بإطلاق) بالديمقراطية الاجتماعية، بالمشاركة الاجتماعية، التي تحتوي في داخلها الوجوه جميعها: الاقتصادي، والفكري، والسياسي. المتضمّنة جميع التفاصيل الداخلية تحت أيّ وجه من الوجوه. إنّ الديمقراطية، مثل الحرية، تكاملها ضمان أساسي من ضمانات تحقّقها.
إلاّ أن هذا الفهم يبقى ناقصاً مالم ندرك العلاقة الجدلية في التساوق بين كلّ من الحرية والديمقراطية، فكلّما تقدمت إحداهما، ازدادت فرص الأخرى للتقدم إلى الأمام. من هنا يمكن القول إن الديمقراطية هي طريق الحرية السياسية، ولا يمكن تحقيق الديمقراطية مالم تُنتزع الحريّة السياسية من براثن المستبدين، وكل قيد للحاكم يشكّل خطوة على طريق حرية المحكوم.
وكما يردّد معظم المفكّرين، يتبين النظام الديمقراطي من سواه من أنّ التغيير في النظام الديمقراطي لأجهزة الحكم ليس بحاجة إلى انقلاب. لأنّ الديمقراطية تسمح، ضمن مبادئها، بالتغيير إذا وافق عليه الشعب. وكلّ نظام لا يسمح بالتغيير، في السلطات السياسية، شرعياً وبطرائق سلمية، يكون نظاماً استبدادياً. إنّ الديمقراطية ليست مجرد دساتير مكتوبة لا حياة فيها، فكثير من أنظمة الحكم المطبّقة عمليّاً، في مختلف البلدان، لا تعكس الطراز السياسي المضمّن في الدساتير، لأنّها تبقي على التمييز بين الحاكم والمحكوم.
من هذا المنطلق تظهر شرعية تزاوج الديمقراطية والمساواة. وتتوضح فكرة أنّ التغيير عملية تتطلب تبديلاً في المفاهيم والعلاقات والأهداف، فضلاً عن التحوّل في النظام السياسي. إنّ السياسي يحاول أدلجة المجتمع ليسوّغ ممارساته، أمّا الفكر فهو وحده القادر على فضح مناوراته أمام المجتمع – المصدر الحقيقي للتغيير. (ونحن عندما نرفض أن نخلّ بميزان حياتنا الطبيعية العادية بانغماسنا في دوّامة السياسة، وفي تخلّينا عن السلطة إلى آخرين، فإنّنا نستيقظ ذات يوم لنجد أن أولئك الذين ائتمناهم عليها قد قطعوا شوطاً بعيداً نحو تقويض تلك “الحياة الطبيعية العادية ” التي خشينا من قطع مجراها) كما قال سدني هوك في كتابه” البطل في التاريخ”.
إننا، في الواقع، نتحمّل الكثير من الشرور من أجل تجنّب إزالتها، فنترك السياسة لمن نسمّيهم (بالسياسيين) وكأنّ الأمر لا يعنينا في شيء، على حين علينا أن ندرك وفرة الوسائل التي تعيننا على محاربة الاستغلال والطغيان، بما أُتيح لنا من قدرة على التفاهم والتكتّل. والديمقراطية في جوهرها هي هذا التجمّع المتفاهم على احترام الإنسان، ومن ثَمّ التعاون على تحقيق الإنسانية في كل شخص، والاعتراف باستقلاليته. وهذا، بدوره، يساعد المجتمع على قبول التطوّر والإبداع، ويساعد على فتح إمكانات الإنسان إلى حدّها الأقصى لإحراز التقدّم مع إبقاء المجال مفتوحاً لكل جديد؛ من أجل مزيد من الديمقراطيّة. إنّ الديمقراطية ليست أمراً ناجزاً ، أو نظاماً مقنّناً يمكن إقامته إلى الأبد؛ إنّها عمل متواصل وفق نهج معيّن. والديمقراطية هي هذا المنهج الذي لا يغلق الأبواب على نتائجه دون التجديد الدؤوب. ولا يمكن – مهما تكن الأحوال – أن تقتصر الديمقراطية على نظام معيّن ضمن مؤسسات، إنّها أيضاً عادات.
يقول بالاندييه: ” الديمقراطية هي طريقة لتشغيل السياسة ولممارسة السياسة بشكل أكثر احتراماً للفرد والتعددية ومطاليب الفرد في الحرية ومساهمته في اتّخاذ القرارات…لكن الديمقراطية مكتسب تاريخي ضخم جداً، وينبغي على المجتمع أن يفتتحه بمشقّة بعد مسار طويل. إنّها عبارة عن عملية تاريخية طويلة. ولا أعتقد أنّ بالإمكان فرضها بقرار من فوق. هذا شيء مستحيل. ينبغي أن تُعاش من الداخل وبدءاً من قواعد المجتمع”. وإذا جاز لنا أن نعلّق على هذا النص وأن نستخلص ما لاحظناه مما سبق، فإننا نقول: إنّ الديمقراطية ليست أسلوباً لممارسة السياسة وحسب، ولكنها طريقة لعيش الإنسان في المجتمع كلّه، بما يتضمنه ذلك من علاقات فكرية واقتصادية وسياسية. إنها منهج أو بوصلة يتمكّن الإنسان، بامتلاكها من السير بخطى واثقة نحو تجاوز ذاته باستمرار. إنّها أسلوب حياة مبني على المشاركة العادلة الحرّة للجميع، مصدره وحافظه ومصبّه المجتمع.
وهي – نظرياً – من حيث الوجه المطبقة فيه، ديمقراطية: سياسية واقتصادية وفكرية. لكنّها – عمليّاً – لا يمكن أن تُجزّأ، فإمّا أن تكون – بكلّ وجوهها – وإمّا أن لا تكون. وهي ليست أمراً ناجزاً، إنّها فعل مستمر تتضمن حركته الداخلية سعياً متواصلاً نحو تحقيقه.