في كل مرة نعود إلى التاريخ الحديث للبنان، نجد أنفسنا أمام ظاهرة تبدو فريدة من نوعها، وهي ما يمكن أن نسميه “ذاكرة السمك” التي تسود بين طبقات واسعة من اللبنانيين، وخاصة بين الموارنة، أولئك الذين عاصروا مختلف المراحل السياسية والدرامية في البلد.
من يستطيع أن ينسى تلك اللحظة التاريخية في تسعينيات القرن الماضي، عندما هرب ميشال عون، الذي كان حينها رمزًا من رموز المقاومة ضدّ (الاحتلال السوري)، مرتديًا بيجامة، تاركًا وراءه كل شعارات الوطنية والمقاومة التي كان يُدندن بها؟.
كان هروبه مشهدًا مُهينًا للكثير من اللبنانيين، ورمزًا للتخلي في أحلك اللحظات، بعد أن كان يُنظر إليه على أنه المنقذ والمُحارب الذي سيحرر لبنان.
لكن العجيب في الأمر هو ليس فقط الهروب ذاته، بل كيف تمّ طمس هذه الحادثة في أذهان الكثيرين مع مرور الوقت، وكيف تحولت من ذكرى حيّة تُستخدم لمحاسبة القادة، إلى مجرد حادثة تم التغاضي عنها وتناسيها من أجل حسابات أخرى.
ومن هنا، نطرح تساؤلات عميقة حول هذه الذاكرة (ذاكرة السمك) للبنانيين.
هل هي نوع من الانتقائية الغريبة، أم هي نتيجة تراكم الصدمات والنكبات التي أنهكت قدرتهم على الاحتفاظ بتلك اللحظات التاريخية في أذهانهم؟
كيف استطاع ميشال عون أن يعود إلى سدة الحكم، ويتحول من شخصية منفية إلى رئيس للجمهورية؟ وكيف يمكن أن نبرر أن نفس الشعب الذي عايش تلك المراحل القاسية اختار إعادة الثقة فيه من جديد؟.
إذا تأملنا في مسيرة ميشال عون السياسية وصهره جبران باسيل، لا يمكن تجاهل التحولات الجذرية التي حدثت في العقل الجمعي اللبناني، وكيف أن الشعب، وخاصة الموارنة، تناسوا بشكل مريب الجرائم التي ارتكبها حزب الله وعائلة الأسد بحق لبنان وشعبه.
تلك الجرائم التي كان من المفترض أن تُكتب بالدم في ذاكرة الأمة، أصبحت مجرد أحداث ثانوية تُطوى تحت بساط الصفقات السياسية ومكاسب السلطة.
والأكثر إيلامًا أن هذا النسيان لم يقتصر على عامة الناس فقط، بل شمل أيضًا الطبقات السياسية والدينية وغيرها، التي كانت تتشدق بالسيادة والكرامة، والتي لم تجد غضاضة في المساومة على “دماء الشهداء” وأوجاع المفقودين والمعتقلين.
وفي قلب هذه المساومات، نجد ميشال عون وجبران باسيل، الثنائي الذي استغل كل فرصة لتعزيز قبضته على الحكم، حتى ولو كان ذلك يعني التحالف مع قوى كانت تُعتبر يومًا أعداء للوطن.
فبينما كان الشعب يُسحق تحت وطأة الفقر والانهيار الاقتصادي، كان باسيل يتحرك بخبث وراء الكواليس لضمان استمرار الهيمنة العونية على السلطة، محافظًا على “الثلث النيابي” الذي كان العقبة الدائمة أمام أي محاولة للإصلاح أو تحقيق أدنى معايير الحياة الكريمة للبنانيين.
ذلك الثلث الذي استخدمه في كل مرة لإجهاض أي مبادرة تغييرية أو مسعى لإنقاذ البلد من هاويته.
لكن ما يجعل الصورة أكثر قتامة هو كيف استطاع هذا الثنائي – العجوز الخَرِف ميشال عون وصهره المتعطش للسلطة – أن يحافظا على هذا النفوذ لسنوات طويلة، غير مكترثين بالأزمات المتتالية التي ضربت لبنان.
فقد تحول البلد، بفضل سياساتهم، إلى مسرح للدمار والفساد والفوضى، حيث تحكمت النفايات المادية والفكرية في تفاصيل الحياة اليومية، وانهارت أسس الدولة التي كانت تُعتبر يومًا نموذجًا يحتذى به في المنطقة.
وفي النهاية، يبدو أن ذاكرة السمك ما تزال تعمل بشكل جيد في لبنان، فها نحن نرى من يُطلق عليهم “الطبقة المثقفة” يدافعون عن حزب الله، ويتغنون ببطولاته الخلبية التي لا وجود لها إلا في خيالهم، وكأنهم يعيشون في عالم منفصل عن الواقع.
حتى أولئك المحسوبون على “محور الممانعة” بدأوا يخجلون من التغني بتلك البطولات الوهمية التي لم تجلب للبنان سوى الخراب والمزيد من الانقسامات.
لكن السؤال الأكبر الذي يطرح نفسه: متى تأتي الصحوة، يا موارنة؟