في زمنٍ لم يعد للحياد معنى، وفي عالمٍ انقلبت فيه القيم رأسًا على عقب، نتحدث بصوت من طُعن في قلبه، من سُلبت أرضه، من اغتيلت كرامته على يد من يدّعون المقاومة.
لقد تحولت المقاومة من شعلة أمل إلى خنجر مغروس في خاصرة الشعب السوري، فما أعظم الألم عندما يأتي الجرح ممن يزعمون أنهم حماة المظلومين، فإذا بهم جلادون.
إن من يمدح هذا الحلف المزعوم إما مغرر به أو شريك في جريمة الخذلان والتآمر.
عندما أسمع من يمدح الحلف الممانع، أرى أمامي أصنافاً عديدة من الناس، كلٌ منهم يثير في نفسي غضباً أشد من الآخر.
في الدرجة الأولى، هناك من لا يدري ما يجري على أرضنا، هؤلاء أضلهم الإعلام المزيّف، يعيشون في عوالم بعيدة عن الواقع، يتحدثون عن “المقاومة” وكأنها بطولات سينمائية لا يدركون أنها دمرت بيوتنا وشردت أطفالنا. هؤلاء قد أعذرهم لجهلهم، لكن ذلك لا يخفف من مرارة ما يقولونه.
ثم تأتي الدرجة الثانية، وهم من يعرفون الحقيقة، لكنهم يصرون على تجاهلها. يصفقون للحلف المزعوم ويغضون النظر عن الجرائم التي ارتكبها بحقنا. هؤلاء هم الأصعب، لأنهم يختارون أن يكونوا عمياناً، يختارون أن يتغنوا بالكلمات الجوفاء عن “الكرامة” و”الصمود”، بينما يغوصون في مستنقع الخيانة تجاه شعبٍ يعاني.
أما الأسوأ على الإطلاق، فهم من يدركون تماماً ما يحدث، ويؤيدونه عن سبق إصرار. هؤلاء لا يُعذرون، ولا يمكن تبرير موقفهم. إنهم شركاء في الجريمة، يمدحون القاتل، يتفاخرون بإنجازاته الدموية، وينسجون حوله هالة من القداسة الكاذبة.
هؤلاء لا أجد لهم وصفاً إلا أنهم خونة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، يتغذون على معاناة غيرهم، ويعيشون في رفاهية وهمية على جثث الضحايا.
طوال حياتي الثورية كنت ثابتاً على موقفي، أرى الأمور بوضوح، وأميز بين الحق والباطل بلا تردد. كنت أعرف جيداً من هو العدو، ومن هو المدّعي الذي يتستر بشعارات المقاومة بينما يرتكب أبشع الجرائم. لكن مع مقتل يحيى السنوار، وقفت حائراً لأول مرة.
وجدت نفسي أمام تساؤلات عميقة: كيف يمكن أن أصنف هذا الحدث؟ وأين أضعه في سياق النضال الذي عشته؟
السنوار، الذي مثّل في نظر البعض رمزاً للمقاومة، لم يكن بعيداً عن تلك الأيدي الملطخة بدماء الأبرياء في أماكن أخرى.
فكيف يمكن أن أتعاطف معه، وأنا أعلم أن من يُغنّي للمقاومة قد طعني من الخلف مراراً وتكراراً؟ لكنه في الوقت ذاته كان خصماً في وجه من يعيثون في أرضنا فساداً، فكيف أتعامل مع هذه المفارقة؟
أمام هذه اللحظة، أدركت أن الثورة ليست مجرد مواقف حادة ثابتة، بل أحياناً هي امتحان للنفس، واختبار للقدرة على فهم التعقيدات التي تلفنا.
لقد رأيتُ بأم عيني كيف يموت البعض وهم يمدحون القاتل بشار الأسد، ينسبون تاريخ سوريا العريقة إلى هذا النظام المجرم وكأنه هو من صنع أمجادها. ثم يرحلون متجعدين من الألم والتناقض، مرتدين الكوفية، التي لطالما كانت رمزاً للنضال، لكنها هنا تبدو على أكتافهم كخاتمة مأساوية، تضفي على موتهم لمسة من السخرية المريرة.
وهنا وجدت نفسي أمام مفارقة مريرة؛ أمام سنوارين: الأول خانني وخان دمائي، وقف مع من قتل شعبنا ودمر بلادنا. والثاني، يحيى السنوار، رغم أنني لا أنكر شجاعته ونضاله، وجدت نفسي أمام نهايته أتساءل: أين أضعه؟ هل أقف إلى جانب قلبي الذي يثمن نضاله ضد المحتل، أم عقلي الذي لا ينسى ما فعله من تبجيل للطغاة وتمجيد لمن سفك دماء أبناء وطني؟
أحياناً، أشعر أنني ممزق بين لغة العقل التي ترفض كل من يخون الوطن مهما كانت تضحياته، وبين لغة القلب التي لا تستطيع إلا أن تحترم من قاوم الاحتلال بشجاعة حتى آخر لحظة.
لأول مرة في حياتي الثورية، وجدت نفسي أمام مشهد لم أستطع أن أفرح به ولا أن أشمت.
لم يكن هناك انتصار شخصي في مقتل رجل مثل يحيى السنوار، الذي كان رمزاً لدى البعض وأداةً للخيانة لدى البعض الآخر. لم أشعر بالسعادة ولا الحزن، بل كان هناك شعور معقد لم أعهده من قبل. هذا الشخص، الذي كان أحد أعمدة المشهد السياسي والعسكري في المنطقة، رحل تاركاً خلفه تركة ثقيلة من الدمار والخيبات.
نعم، لقد دمر قطاعه بقراراته وسياساته، وأودى بحياة آلاف الشهداء من أبناء شعبي، تلك الأرواح التي لم يكن من المفترض أن تُزهق لولا تلاعبه بالمعارك وسوء تقديره للعواقب.
لقد كان أحد الذين ظنوا أنهم قادرون على إدارة الحرب كما يشاؤون، متجاهلين حجم الدمار الذي خلفوه وراءهم. ورغم ذلك، فإن قراره الأخير كان مفاجئاً بكل المقاييس، فقد أتى بنتائج لم يكن هو نفسه يتوقعها.
لقد دفع بقراره هذا إلى انهيار المشروع الذي لطالما دافع عنه ودمر معه ما كان يعرف بـ “الهلال الشيعي”، مما جعل هذا المشروع مجرد أضحوكة في أعين العالم، وكأن السنوار بقراره ذاك أنهى بنفسه الحلم الذي طالما سعت إليه قوى هذا الحلف المزعوم.
ولأول مرة أجد نفسي أرثي شخصاً دون أن أميل تماماً إلى الحزن أو الشماتة. عقلي يعترف بحقيقة أنه رحل بعدما صنع لنفسه مجداً زائفاً على حساب حياة الآلاف، ولكنه أيضاً يعترف بأن هذا الرحيل أتى بثمرة غير متوقعة، فقد كان نقطة انهيار لمنظومة كاملة أرادت الشر لوطني. وبينما عقلي يستوعب هذا الانهيار، لا يزال قلبي يتأرجح بين مشاعر مختلطة، فهو لا يمكنه تجاهل شجاعة الرجل في بعض المواقف، ولكن في نفس الوقت لا ينسى طعنة الخيانة التي وجهها لنا.
إنه ذلك الصراع الذي لا ينتهي بين القلب والعقل؛ القلب الذي لا يستطيع أن يغفر، والعقل الذي يحاول أن يكون عقلانياً في رؤيته. لا يمكنني أن أتجاهل الحقائق، لقد رحل السنوار، رحل بعدما ترك وراءه إرثاً ثقيلاً من الدمار والخسارة، لكن رحيله أيضاً كان نهاية لخطط ومشاريع دمرت كل ما حاولوا بناؤه. وبينما أودعه كإنسان، لا أستطيع إلا أن أقف متأملاً في كيف أن هذا الشخص كان عاملاً في النهاية التي كنا ننتظرها منذ زمن.