أثارت انتباهي الحشود الجماهيرية الكبيرة التي جاءت لتصلي في جامع آيا صوفيا، بعد افتتاحه عقب 86 سنة من تحويله لمتحف في عهد مؤسس الجمهورية التركية كمال أتاتورك، فيما كان التركيز الإعلامي على وجود الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان كبيراً، وكأنه يقول للأتراك أتاتورك أغلق المسجد وأنا أعدت لكم افتتاحه.
وقبل ذلك أتابع منذ أسابيع الحملة الصاخبة التي أعقبت مصادقة الرئيس التركي، رجب طيب أردوعان، على الحكم القضائي الذي أصدره مجلس الدولة التركي، وهو أعلى محكمة إدارية في تركيا، في التاسع من تموز الجاري، يُبطل فيه الوضع الذي كانت آيا صوفيا توصّف بموجبه متحفاً، بعد موافقة المجلس على طلباتٍ قدّمتها منظمة تركية بإبطال قرار مجلس الوزراء التركي الصادر في 24 تشرين الثاني في عام 1934، والذي كان يعطي آيا صوفيا وضع المتحف.
كلا الجانبين الـ مع والـ ضد، يقدمان أدلتهم وكل منهم يحمل جوانب منطقية في طروحاته، استناداً إلى التاريخ والحاضر، والمعاملة بالمثل، إلا أني لن أخوض في هذا المجال الذي كُتب عنه الكثير، ولكن السؤال: لماذا تمت الموافقة على إعادة آيا صوفيا إلى مسجد الآن، رغم أن جمعية خدمة الأوقاف قد رفعت أكثر من دعوى تطالب فيها بإعادة آية صوفيا إلى مسجد، فبدأ المسار القانوني عام 2005، عندما رفعت الجمعية قضية إلى المحكمة الإدارية العليا، طالبت فيها بإلغاء قرار مجلس الوزراء التركي الصادر في العام 1934، ولكن الغرفة العاشرة في المحكمة رفضت طلب الجمعية في 2008، مستندة إلى أن استخدام آيا صوفيا متحفا لا ينتهك القانون التركي. ثم استأنفت الجمعية دعوتها أمام المحكمة، لكن القرار الذي صدر في 2012 نص على تثبيت الحكم السابق. وبعدها أعادت الجمعية رفع دعوتها في 2016 أمام الدائرة العاشرة لمجلس الدولة التي أصدرت قرارها النهائي القاضي بإلغاء قرار عام 1934، وإعادة فتح آيا صوفيا مسجداً.
رغم عدم معارضة أغلبهم لهذه الخطوة، فإن كل السياسيين ورؤساء الأحزاب التركية مجمعون على أن إعادة افتتاح آية صوفيا كمسجد، هدفها الأول والأخير سياسي، وهو زيادة شعبية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي زار آية صوفيا مرتين خلال عدة أيام، أثناء التحضير لافتتاحه، والتقط فيها الكثير من الصور هو وزوجته أمينة، سيما وأن الزعيم التركي حاول دغدغة المشاعر المسلمة عبر ربط هذا الافتتاح بتحرير المسجد الأقصى، وهي لعبة بات أردوغان يجيد التنقل بين حدودها المسموحة، فعندما رأى أن دول المقاومة والممانعة تكسب شعبيتها وشرعيتها المفقودة من خلال البكائيات على قضية فلسطين منذ نصف قرن، دون أي إجراء فعلي في هذا الخصوص، على مبدأ ” مدامع لا مدافع” قال لنفسه: وهذا ولماذا لا أفعل مثلهم، فبدأ بعدة خطوات استعراضية أكثر منها فعلية، أشهرها: عندما غادر أردوغان منتدى دافوس الاقتصادي في سويسرا غاضباً بعد مشادة كلامية مع الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز عام 2009، رغم أن العلاقات التركية الإسرائيلية لم تتأثر كثيراً بهذه الخطوات، فمازالت سفارات كلا البلدين مفتوحة، ومازال التبادل التجاري قائماً!.
ثم هل إسطنبول، مدينة المآذن التي فيها ما يقارب الـ 3300 مسجد، أضحت بحاجة إلى هذا المسجد؟ رغم أن المساجد لا تكاد تمتلئ إلا يوم الجمعة وفي المناسبات الدينية.
ولكن السؤال الأهم: هو ماذا سيستفيد المسلمون حول العالم من هذه الخطوة؟ البلدان الإسلامية بغالبيتها منفرة لأهلها، فهم الغالبية من المهاجرين واللاجئين حول العالم، ومن شدة انسداد الآفاق فيها ترى حلم الشاب هو أن يهاجر كي يبني لنفسه مستقبلاً لائقاً، لذلك لا يتوانى الشباب عن ركوب البحر حتى يصل إلى الضفة الأخرى من المتوسط أو العالم الغربي، كي يحظى بشروط معيشة عادلة، رغم ما تنطوي عليه ركوب البحر من مخاطر جمة.
حتى تركيا مصدرة لليد العاملة لأوروبا، فهنا في فرنسا نسبة العمال الأتراك في قطاع البناء لا يستهان بها، فضلاً عن أنه لا يكاد يخلو حي فرنسي من مطعم شاورما تركي.
فهل سيساعد افتتاح المسجد هؤلاء الضعفاء المستضعفين، وهم بالملايين على الحياة الجديدة، أم أنه سيزيد من صعود اليمين المتطرف الذي يكره اللاجئين والمهاجرين، ولو استطاع رميهم في البحر لما قصَّر، أم أنه سيزيد من حالات التمييز العنصري والانتهاكات التي يتعرض لها المسلمون؟
اليونان التي أعلنت تنكيس الأعلام، حداداً على إعادة آيا صوفيا إلى مسجد، يقول أغلب السوريين الذين مروا من أراضيها أثناء رحلة التشرد، إن أفضل معاملة تلقوها كانت في اليونان.
قبل أيام عبر الملك البلجيكي فيليب، للمرة الأولى في تاريخ بلجيكا عن “بالغ أسفه للجروح” التي تسببت بها فترة الاستعمار البلجيكي لجمهورية الكونغو الديمقراطية.
الملك البلجيكي وفي كلمة وجهها للرئيس الكونغولي الديمقراطي بمناسبة الذكرى الـ 60 لاستقلال بلاده، قال “أود أن أعبر عن بالغ أسفي لجروح الماضي هذه التي يستعاد ألمها اليوم عبر التمييز الذي لا يزال حاضرا في مجتمعاتنا”.
لا شك أن خطوة كهذه تأتي في الاتجاه الصحيح، وتشجع دولاً ذات تاريخ استعماري على أن يحذوا حذو بلجيكا، وبلادنا العربية والإسلامية هي من أكثر البلدان التي اكتوت بنيران الاستعمار، وتحتاج لهكذا مبادرات، ولكن إعادة افتتاح الكنيسة التي كانت في يوم من الأيام أهم معلم مسيحي ارثوذكسي كمسجد، لا أعتقد أنه سيكون عامل دفع للأمام.