في الشمال السوري المحرر، حيث كان للحرب ندوب عميقة على الأرض والناس، أصبحت مخلفات الحرب مصدر رزق للكثير من العائلات التي تعيش تحت وطأة الحاجة والضيق.
تجمع تلك العائلات القنابل والصواريخ غير المنفجرة، وتقوم بتفكيكها بحثًا عن المعادن التي يمكن بيعها، لكن هذه المهنة، رغم ما توفره من دخل، تنطوي على مخاطر قاتلة، وتعد واحدة من أخطر المهن.
حادثة يوم 22 سبتمبر 2024، في بلدة كللي، جاءت لتؤكد على تلك المخاطر “أحمد مصطفى الجللي” شاب يسعى لتأمين قوته وسط ظروف معيشية قاسية، كان يعمل بجمع مخلفات الحرب وإحضارها إلى منزله، إلا أن هذا القرار كان له ثمن فادح.
انفجرت إحدى القنابل غير المنفجرة وهو يحاول تفكيكها، مما أدى إلى وفاة أحمد وابنه الذي لم يتجاوز عمره أربع سنوات، كما أصيبت زوجته وابنته بجروح خطيرة، لترتفع تلك الحادثة إلى مستوى المأساة الإنسانية.
تنتشر تلك القنابل والألغام في المناطق السكنية، الأراضي الزراعية، وحتى أماكن لعب الأطفال، ومنذ بداية عام 2024، استجابت فرق الدفاع المدني السوري لـ 13 انفجاراً نتج عنها مقتل 6 مدنيين، بينهم 3 أطفال، وإصابة 25 آخرين، معظمهم أطفال ونساء.
هذه المخلفات، التي تعود إلى أكثر من 13 عامًا من القصف الممنهج الذي نفذته قوات النظام وروسيا، تظل قنبلة موقوتة في متناول الجميع، خاصةً بين يديّ من يجهلون مدى خطورتها.
نحن أمام تساؤلات حول تلك المهنة التي أصبحت ضرورة للبعض، ومصدرًا للخطر بالنسبة للجميع، فعلى الرغم من الوعي بالخطر، يضطر الكثيرون إلى الاستمرار في هذا العمل بسبب الفقر المدقع وقلة الخيارات البديلة، في بعض الأحيان، يكون العمل بهذا عمل هو السبيل المتاح لتوفير الحد الأدنى من احتياجات العائلات.
التعامل مع القنابل غير المنفجرة يتطلب خبرة دقيقة وأدوات خاصة، لكن في الشمال السوري المحرر، يغيب التدريب المناسب والمعدات الوقائية، غالبًا ما يعتمد العاملون في هذا المجال على تجربتهم الشخصية أو المعلومات التي يحصلون عليها من الآخرين، دون أي ضمانات للسلامة، وفي كل يوم، يواجهون احتمالية أن تكون آخر خطوة لهم هي خطوة نحو الموت.
يعيش هؤلاء الأفراد تحت ضغط مستمر وتوتر نفسي هائل، حيث يدركون أن حياتهم قد تنتهي في لحظة خاطئة، ومع ذلك، يضطرون للاستمرار، محاصرين بين خيار البقاء جياعًا أو المخاطرة بحياتهم.
على الرغم من الجهود المحلية لإزالة الألغام والمخلفات الحربية من هذه المناطق، إلا أن المناطق المحررة لا تزال مليئة بالقنابل غير المنفجرة التي تهدد حياة الآلاف هذه المخلفات لا تقتل فقط أولئك الذين يتعاملون معها، بل تظل تهديدًا مستمرًا لكل من يعيش في تلك المناطق.
حادثة أحمد مصطفى الجللي وعائلته ليست إلا حلقة من سلسلة مآسٍ سيشهدها الشمال السوري مرارً إن لم تعالج المشكلة بشكل حقيقي، هذه الحوادث تذكير قاسٍ بأن الحرب لا تترك بصمتها فقط على الأرض، بل تمتد آثارها القاتلة إلى سنوات بعد انتهائها، حيث تظل بقاياها تحصد الأرواح وتخنق الحياة.