العميد الركن مصطفى الشيخ – تفاصيل برس
لينتبه قرائي وأصدقائي والشعب السوري كله أن ما سأكتبه هو من أهم ما كتبته خلال عشر سنوات وهو توصيف وتحليل لا علاقة له بموقفي الشخصي أو لعواطفي فيه على الإطلاق.
هذا المقال هو استكمالاً وتوضيحاً لما كتبته بعد مؤتمر جدة الذي حضره بشار الأسد لأول مرة بعد عام 2011، عندما انهارت معنويات جمهور الثورة معتقدين أن نظام بشار الأسد يتم تدوريه وإعادة تأهيله، وهذا الكلام عارٍ عن الصحة والمنطق بالمطلق، وأذكِّرُكم أنني كتبت عن الشرق الأوسط الجديد على مدار عشر سنوات موضحاً أن الدور الإيراني سينتهي من الشرق الأوسط.
وأذكِّركم أيضاً أن الشعب السوري على ضفتيه كان لا يصدق ما أكتب ويعتبره ضرباً من الخيال، وها هو الواقع ناطق ماثل أمامكم، وما دعاني لأكتب هذا المقال ما بدأ يتردد منذ أيام أن النظام السوري باقٍ وهو الذي سيوقع اتفاق السلام مع إسرائيل، وهو أيضاً سيعود ببعض قواته المتبقية وبعض الفصائل التابعة له بالدخول الى لبنان ليملئ الفراغ بعد انهيار واختفاء حزب الله من الساحة اللبنانية، وهذا الكلام غير صحيح وغير منطقي ولا يمكن أن يحصل ولا في الأحلام وانني أراهن وأتحدى على صحة ما أقول.
وهذا الترويج بهذا المنطق وفق قراءتي له مصدره المحور الإيراني تحديداً علم المروج أم لم يعلم، والمرجح أن يكون مصدره النظام ذاته، ولهذا فإن ما سأكتبه هو متصل اتصالاً وثيقاً بما كتبته عن الشرق الأوسط الجديد على مدار عشر سنوات، قد يحمل ما أكتب نسبة من الخطأ في التكتيك وهذا أمر طبيعي، إنما قد يحمل نسبة ضئيلة جداً في المتن الإستراتيجي للشرق الأوسط الجديد الذي يجتاز فيه المرحلة الأخيرة، ويخوض آخر حرب فيه ويؤسس لمئة عام قادمة أو يزيد..
قلنا سابقاً إن منطقة الشرق الأوسط هي أهم مناطق العالم على الإطلاق، ومن يسيطر عليها يسهل عليه السيطرة على العالم كله نظراً لما فيها من المؤهلات، من ثروات متنوعة وموقع جيوسياسي وممرات بحرية وبرية وعدد سكاني، لكن البنية العقدية والانقسامات الطائفية جعلته دائماً عرضة للانفجار وعدم الاستقرار ومنفذ للتدخل فيه، وهي أكبر الفجوات القاتلة التي تمنع من أي حالة تقدم، والتي تسهل على الأجنبي العبث فيها وتدمير ما أنجزته هذه الشعوب بأيديها، كردات فعل غاضبة وحاقدة بين أطرافه.
هذه الفجوة استطاع الراسم والمتحكم الاستراتيجي الدولي أن ينفذ منها ويحطمها ويحقق ما يعجز عنه أساطيل وجيوش خارجية تحقيقه، وهذا حصل منذ وصول الخميني للسلطة ولغاية اللحظة وبإتقان فاق تصور الراسم والمتحكم الإستراتيجي الدولي، هذا الصراع عليكم مراجعة تفاصيله المعروفة والحروب التي حصلت معروفة، وصولاً لهذه اللحظة التي حان قطاف كل هذه الحروب وتأطير نتائجها بشرق أوسط جديد ونظام دولي جديد للأسباب التالية:
أولاً: لا يمكن أن يتم إنجاز شرق أوسط جديد والأكثرية العربية السنية الساحقة فيه ترفض السلام والتعايش مع الإسرائيليين، فكان لا بد من تحطيم وتأديب العرب السنة من خلال الانقسام المذهبي بين السنة والشيعة، وهذا الانقسام لم يكن له وجود قبل وصول الخميني للسلطة على الإطلاق، تم إعادة إحيائه وتأجيجه بمداعبة أحلام الفرس بإعادة إمبراطوريتهم، وإعطائهم دوراً حتى يبلغ أقصاه بضرب المكون العربي السني تحت مبرر وعنوان مكافحة الإرهاب والتطرف، حيث كان الشعار الأبرز الذي يختبئ تحته كل هذه الأهداف التي ذكرت وكان له حامل تم صنعه بإتقان وهو بدأ بنشر الفكر الجهادي في أفغانستان ودور بن لادن والظواهري، إذاً تم تخلق صراع له جذور مذهبية وانقسامات تاريخية بدأت منذ اغتيال سيدنا عثمان، وهي ذاتها التي ترونها اليوم بمسميات مختلفة ومظلومية أهل البيت.
في حين أن الذي قتل أهل البيت هم ذاتهم الذين يتباكون عليهم علموا أم لم يعلموا، واليوم ونحن نوثِّق بالصوت والصورة يتم تزوير الحاضر بالقول إن إيران ستحرر القدس، وإن الدول العربية كالسعودية هي مركز الإرهاب التكفيري، اليس هذا معروف؟ والحقيقة عكس ذلك تماماً، فلا إيران ستحرر القدس ولا السعودية مركزاً للإرهاب.
ثانياً: لقد أثبتت الوقائع أن التطبيع بين الشعوب وإسرائيل قد فشل بعد اتفاقية كامب ديفيد واتفاق وادي عربة، وبالتالي فإن إسرائيل ستبقى في حالة عزلة وحالة منبوذة وغير مستقرة، ولا بد لتغيير ثقافة الشعوب العربية، وتغيير هذه الثقافة تقتضي من خلال البند الأول أعلاه، أن يكون هناك عدو مشترك بين الأغلبية العربية السنية واليهود، وهذا حصل بالفعل من خلال عدو مشترك وهو إيران، فقد باتت الشعوب العربية اليوم شاءت أم لم تشأ هي في خندق واحد مع إسرائيل في حربها ضد إيران التي فعلت ما فعلت من جرائم ومجازر وموبقات فاقت التتار والمغول ولم تحصل في التاريخ.
وبالتالي فاليوم نرى ونسمع التأييد الشعبي لإسرائيل في ضرب المحور الإيراني، والحقيقة تقال: لا يوجد من يستأصل الدور الإيراني في المنطقة الا إسرائيل وحصراً وهذا لا ينكره عاقل، وعلينا أن لا نكذب على أنفسنا ونخادعها، فجميعنا مسرورين ومهللين لإنهاء الدور الإيراني اليوم وما تفعله إسرائيل، وهناك فئة واحدة فقط تقف ضد هذا الشعور والتوجه وهم الإخوان المسلمين وحصراً، وهذا ليس ادعاء بل هو واقع ماثل أماكم، ذلك أن الإخوان المسلمين وإيران في خندق واحد تماماً لأسباب إيديولوجية ومدفوعة من دول غربية كفرنسا على سبيل المثال.
ثالثاً: علينا أن ندرك أن هناك انقسام داخلي أمريكي بين نهجين، النهج الأوبامي الفرنسي الأوروبي الذي لديه مشروع الإبقاء على الدور الإيراني في الشرق الأوسط وتفتيت المنطقة، والتركيز على استجرار روسيا للحرب في أوكرانيا وتحطيمها وتقسيمها والتي تعتبر الخندق الأمامي للصين، وهي الند والمنازع الأول على زعامة العالم مع أمريكا، واعتقد هذا واضح ولا يحتاج لتوضيح أكثر، وبين النهج الترامبي المتناقض لهذا التوجه ومعه دول الخليج العربي وإسرائيل وروسيا والصين ومصر والأردن وبعض الدول الاوربية كبريطانيا مثلاً وغيرها.
رابعاً: ما يقال إن إسرائيل هي الداعم لبشار الأسد وهي التي سمحت ووافقت على دخول إيران لسوريا، هذا الكلام غير صحيح ومتناقض تماماً والتوجه الاستراتيجي الإسرائيلي، فإسرائيل لا تريد تقسيم سوريا ويتكرر ما يتكرر بلبنان، هي تريد دولة مركزية قوية على حدودها وهذا يضمن أمنها على عكس التوجه الأوبامي الفرنسي بتقسيم المنطقة، وكلنا يعلم ويدرك أن من منع إسرائيل من ضرب المفاعلات النووية الإيرانية على مدار أكثر من عشرين سنة هي أمريكا للأسباب التي اشرت لها أعلاه.
خامساً: إن إعطاء تفويض لإيران في المنطقة قد تجاوز حدوده من دور التخادم مع أمريكا إلى دور المنافس والمهدد للأمن القومي الإسرائيلي من خلال حماس وحزب الله والحوثي وبالتالي فإن إسرائيل دخلت دائرة المنافس الذي سيهدد وجودها، وإن كانت ايران كاذبة وتستغل هذه الاذرع لتمرير مشروعها النووي وتصبح قوة فاعلة في الشرق الأوسط وهذا أيضاً لا تسمح به إسرائيل ولو أدى الى حرب نووية، وهذا بات اليوم واضحاً وليس تحليلاً.
سادساً: من يقول إن أمريكا بايدن وفرنسا هي متفقة مع إسرائيل استراتيجياً فهو مخطئ تماماً، الخلاف في ذروته ولا يوجد ثقة بين إسرائيل وهذا المحور، وسأسوق لكم دليلاً جديداً على ذلك، كم مرة قال بايدن إن نتنياهو لا يطلعه على الأهداف التي سيضربها في إيران؟ بل أكثر من ذلك فإن بايدن قال إنه لا يثق بنتنياهو، إنه كاذب، وفرنسا طالبت بإيقاف توريد الأسلحة لإسرائيل، وكان رد نتنياهو عليه قاصماً واضحاً بأننا سننتصر بدونك، ثم استمأتت إدارة بايدن للتنسيق مع إسرائيل بحجة حماية الأجواء الإسرائيلية من رد إيراني محتمل، وهنا بدأت اللعبة..
فإسرائيل لا تثق بالإدارة الأميركية وتدرك أن هذه الادارة ستسرب المعلومات لإيران، فقد أعطتهم خطة استهداف لأهداف إيرانية وهي تدرك مسبقاً سيتم تسريبها، وفعلاً وقعت إدارة بايدن في الفخ وسربت الأهداف وهناك تحقيقات بهذا الصدد كلنا سمعناها أليس كذلك؟ والحقيقة أن الأهداف التي سربت أهداف غير صحيحة على الإطلاق، والأهداف الحقيقية وتوقيت ضربها لا يعلمه إلا إسرائيل حصراً..
وإذا اليوم أرادت إدارة بايدن أن تترك إسرائيل في مواجهة إيران وعلناً فسوف تسقط في الانتخابات، وأن الكونغرس صانع القرار الاستراتيجي مع نتنياهو الذي صفق له قبيل الحرب اثنان وخمسين مرة وقوفاً كما نذكر، وبالتالي فإن المشروع الأوبامي الفرنسي قيد السقوط، وسيسقط، ذلك أن القرار الاستراتيجي في الشرق الأوسط هو لإسرائيل والتي يجب أن يراعى وجودها وأمنها وهذا تعهد أمريكي أوروبي ودولي لها منذ نشأتها، وبالتالي فإن هذا المحور ومنظريه وتكاليفه وخسارته يعني شيء رهيب وصانعيه لن يستسلموا بهذه السهولة، ولهذا فإن نتنياهو يستغل فترة الانتخابات ليغير توازنات الشرق الأوسط استراتيجياً، بحيث إن فازت كمالا فلا تستطيع تغييره، وإن فاز ترامب فزيت على زيتون، وهذا ما تريده إسرائيل ودول الخليج والأردن ومصر والإمارات وروسيا والصين.
سابعاً: وهو ما يهمنا نحن السوريين: دعوني أوضح، وما وددت أن أوضح بهذا الشكل، لكنني مضطر أن أوصف الوضع كما هو وكما يدرس في الواقع:
أولاً : يجب أن نعي أن إسرائيل لا يمكن أن توقِّع سلاماً مع نظام الأسد ، لأنها تدرك أن جوهر نظام الأسد هو نظام طائفي ولا يعبر عن رأي الأكثرية، وبالتالي إن لم تكون الأكثرية السنية في سوريا راضية وموقعة فإن السلام مع إسرائيل نوع من الهراء والمجازفة، وإسرائيل أوعى وأدهى وأعقل وأذكي من أن تقع في هكذا خطأ، هذا من جانب، ومن جانب آخر، هي تدرك أن نظام بشار قد ارتكب من الجرائم بحق شعبه ما يستحيل أن على أي دولة تحترم ذاتها أن تعيد تدوير النظام.
ثانياً: من يعتقد أو يصدق أن بشار الأسد جاهز أن يساعد بالدخول إلى لبنان ببعض قواته وميليشياته لاستعادة الأمن وملئ الفراغ بعد حزب الله ، فهذا أمر لا يمت للمنطق ولا للقدرة المتبقية، ولو دخلت قوات بشار إلى لبنان مرة ثانية فسوف يرفضها الشعب اللبناني ويدمرها قبل أن تحطّ رحالها على أرض لبنان، فلبنان الذي كان يحلم بأن تخرج سوريا من لبنان، ثم ينتهي حزب الله ، ليتحرر من المحور الإيراني لن يسمح ولا يمكن أن يقبل أن تذهب هكذا فرصة لطالما انتظرها، هذا التصور ضرب من الجنون وإعطاء قيمة للنظام بأنه قادر أن يمارس دور في الشرق الأوسط يساعد إسرائيل في تحقيق أهدافها، هذا تصور جنوني ربما يحصل على كوكب المريخ أو زحل.
ثانياً: لن أوضح الدور الخليجي في سوريا بعد مؤتمر جدة ولغاية اليوم كي لا أخدم النظام.
وسأكتفي بالقول إن روسيا تتطلع وتنسق مع دول الخليج من أجل أن تلعب المملكة العربية السعودية والإمارات ومصر دوراً في إيقاف الحرب الأوكرانية الروسية، وهذا ليس سراً، بل صرح به بوتين منذ أيام، واليوم فإن الدور الأقوى في سوريا هو لروسيا، وسيزداد تأثيراً بخروج الدور الإيراني ومليشياتها وقريباً، فإذا أدركنا أن النظام يدعمه بايدن وفرنسا وهذا المحور فاعلم أن هذا يكفي روسيا لكي لا تثق بنظام الأسد ولا بنظام إيران ولن أوضح أكثر، وبعض الناس يخلطون بين توافقات الضرورة أو تقاطع المصالح المشتركة وبين المصالح الاستراتيجية، فروسيا لا ترغب مطلقاً وأبداً بإيران المجاورة بأن تكون دولة نووية، ولن أوضح أكثر.
ثالثاً: بعد إنهاء حزب الله في لبنان ستكون إيران هي الهدف الثاني الذي طال انتظاره، فلا معنى لكل هذه الحرب مهما تعالى كعبها وسيذهب ريحها ونتائجها أدراج الرياح إن لم يضرب الرأس وهي إيران، وإيران ستضرب لا محالة ضربات إما تخرجها من دورها المحوري في المنطقة بتدمير بناها العسكرية والاستراتيجية والنووية، وإما ستضرب ضربات تؤدي لإسقاط النظام وتقسيم إيران، وهذا ما أرجحه، مع أن ذلك له تداعياته الخطيرة في المنطقة حتى حدود الصين، فكل التوازنات مهددة بالانهيار بالفعل إن تم تقسيم إيران، ولن أذهب لأفند انعكاس ذلك على الباكستان وأزربيجان والهند وأفغانستان، بل ما يهمني هو أن تركيا ستضطر حتماً أن تدخل الساحة السورية حصراً لحماية أمنها القومي، وقد تناولت ذلك في مقالات سابقة.
رابعاً : لا يوجد الا سيناريو واحد لا ثاني له في سوريا بعد صرب ايران او انكفائها وخروجها من سوريا للتغيير في سوريا وهو :
دخول قوات عربيية من مصر والاردن ودول الخليج للإشراف على المرحلة الانتقالية ، ومحال اي سيناريو أن يكتب له النجاح ويحقق اهداف الشرق الاوسط الجديد دون اللجوء لهذا السيناريو وحصراً ، وهنا اعود التأكيد أن النظام في سوريا سيتغير بشكل جوهري وليس صوري او شكلي حيث ترغب فرنسا وادارة بايدن ، بل التغيير الجوهري لا بد منه كي يتحقق نجاح الشرق الأوسط الجديد ، والفهيم من الإشارة يفهم .
رابعاً : إن الواقع الحالي المترسخ في سوريا اليوم هو خيار التيار الأوبامي الفرنسي والذي يهدف للتقسيم، والمعارضة شاركت فيه علمت أم لم تعلم، وهذا السيناريو يعتبر بحكم الساقط والمنتهي حتماً، وأما الدور التركي خلال ثورات الثورة فقد ارتكبت أخطاء استراتيجية عميقة جداً بحق أمنها القومي، وأيضاً التعامل مع الثورة يحمل نوع من الهروب وعدم وضوح الرؤيا الاستراتيجية وفق قناعاتي والذي اضر بالثورة والشعب السوري أيما ضرر، لا أقول ذلك من بواعث مشاعري وإن كانت مواقفي ضد الدور التركي بالمطلق بالتعامل مع الثورة، وأكبر خطأ هو اعتمادها على الإخوان المسلمين، وتيار الإخوان المسلمين حصراً لا وجود له في الشرق الأوسط الجديد، ذلك أنه متوافق في جذوره وفروعه مع التوجه الإيراني، وهذا ليس سراً بل بات واقعاً معاشاً ملموساً كالشمس، واعتقد ان المتابع بعمق للمشهد يدرك دقة وصحة ما أقول، وهذا هو الجانب الأخطر الذي وقعت فيه تركيا وسيسبب لها المتاعب والهواجس والأخطار وعدم الاستقرار مستقبلاً.