دمشق – هيئة التحرير – تفاصيل برس (خاص)
في أحد أسواق دمشق، بين الجوارب المعلّقة على الحبال والأحذية المستعملة المصفوفة على الأرض، تظهر صورة حافظ الأسد، مؤسس الحكم البعثي في سوريا، مطبوعة على نعل حذاء أو طرف جورب.
صورة لم يكن يُجرؤ أحد على تعليقها خارج إطار التبجيل الرسمي، أصبحت اليوم تباع بثمن بخس، بلا هيبة، بلا خوف، وبالكثير من التهكم.
هذا التحوّل اللافت في التعامل مع صورة الرجل الذي حكم سوريا بقبضة من حديد على مدى ثلاثين عامًا، يعكس عمق التغيرات النفسية والاجتماعية والسياسية التي عصفت بالسوريين منذ انطلاق الثورة عام 2011.
فما كان يومًا صنمًا مقدسًا في ذاكرة الدولة، بات أداة للسخرية الشعبية، ومنبرًا للتمرد الصامت ضد تاريخ مليء بالقمع والدم.
رمز الخوف والانضباط
حافظ الأسد، الذي تولى السلطة عام 1970 بعد انقلاب عسكري، رسّخ في الوعي السوري صورة القائد الأوحد. كانت صوره تملأ المدارس، والدوائر الحكومية، والشوارع، حتى أصبحت جزءًا من المشهد اليومي، مثلها مثل العلم والنشيد الوطني. لكن هذا الحضور لم يكن بريئًا؛ فقد ارتبط بالخوف والرقابة والتلقين. مجرد نكتة صغيرة تتعلق بـ”السيد الرئيس” قد تكلف المواطن عمره خلف القضبان.
في عهده، لا سيما بعد مجزرة حماة عام 1982 التي راح ضحيتها آلاف المدنيين، تكرّست سياسة “القبضة الأمنية”، وتحولت البلاد إلى سجن كبير تُراقب فيه الأنفاس. هذا التراث من القمع ورثه ابنه بشار الأسد، الذي ورث السلطة عام 2000، وكأن سوريا تُحكم كإقطاعية لا كدولة.
ثورة الوعي.. وثقافة السخرية
مع انطلاق الثورة السورية، لم تكن الشعارات فقط هي ما تغير، بل تغيرت أيضًا علاقة الناس بالرموز. فقد سقطت القداسة عن الكثير من الشخصيات، وفي مقدمتهم حافظ الأسد. وجد الناس في التهكم وسيلة للمواجهة، وسلاحًا لانتزاع الهيبة المزيفة التي فُرضت لعقود.
في إدلب وأعزاز وسرمدا وحتى في مناطق المخيمات، بات من المعتاد أن ترى صوره تُستخدم كقماش للمسح أو تُطبع على حاجيات مهملة. بعض الرسامين يرسمونه بقرون، والبعض يضع صوره على صناديق القمامة. هذه ليست مجرد أفعال عبثية؛ بل هي شكل من أشكال المقاومة النفسية والثقافية.
تمرد بلا رصاص
في مناطق المعارضة السورية، حيث لا سلطة للأسد، وجد الناس مساحة للتنفيس والتعبير عن رفضهم بطريقة ساخرة، تعكس جراحهم العميقة. هذا التمرد الساخر لا يقل قيمة عن النضال المسلح أو السياسي، لأنه يضرب في عمق الصورة الدعائية التي ظل النظام يحاول الحفاظ عليها لعقود.
حتى بين أوساط اللاجئين في تركيا وأوروبا، تظهر هذه الثقافة الجديدة. منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، رسوم كاريكاتورية، ومبادرات فنية تسخر من صورة حافظ وبشار الأسد، وتعيد صياغة الرموز بما يتناسب مع سردية الضحية لا الجلاد.
الصورة التي فقدت سطوتها
إن وصول صورة حافظ الأسد إلى الأرصفة، مفرغة من معناها السلطوي، ومستخدمة كأداة للتهكم، يعني أن جدار الخوف قد تشقق إن لم يكن قد انهار كليًا. فحين يُهزأ من الصنم، تُكسر العصا التي كان يلوّح بها.
لم تعد صورة حافظ الأسد تُرهب أحدًا. تحوّلت إلى قطعة قماش بالية، دليل على أن الشعب، رغم كل ما مرّ به من حرب وتهجير ومآسٍ، لا يزال يمتلك قدرته على التمرد، حتى إن كان بسخرية ناعمة. وربما في هذا التهكم، يكمن أصدق أنواع الرفض، وأعمق تجليات الوعي.
لقد سقط الأسد، الأب والابن، في نفوس السوريين، وأصبحت سوريا من دون الأسد.