بلال الخلف – تفاصيل برس
لم نكن نتوقّع أن نرى مدينتنا في قلب دمشق. كنا نظن أن كفرنبل، تلك المدينة الصغيرة التي صارت رمزًا، قد غابت عن الذاكرة كما غُيّبت عن الجغرافيا. لكن حين وقعت أعيننا على صور من المعرض المُقام في محطة الحجاز الأثرية، وقد علت فيه لافتة كتب عليها “كفرنبل”، شعرنا بشيء يتكسّر في صدورنا، بشيء كان نائمًا واستيقظ فجأة.
لم نزُر المعرض، لكن صورة واحدة كانت كافية لتهزّ وجداننا.
رأيناها على بوابة الحجاز، واقفة، باسقة، تُعلن حضورها.
في تلك اللحظة، لم تكن الصورة مجرّد مشهد توثيقي، بل كانت لقاءً، وعودةً، وشهادة حياة.
نحن أبناء كفرنبل، نعرف كيف تحوّلت مدينتنا من بلدةٍ صغيرة إلى وجهٍ للثورة، كيف رفعت الكلمة فوق الرصاصة، والسخرية فوق القمع، وكيف واجهنا الموت بلافتات كُتبت في مطابخ البيوت وعلى أبواب الدكاكين.
ما رأيناه في صورة المعرض لم يكن مجرد تكريم، بل اعتراف.
اعتراف بأن تلك المدينة التي سُلبت كل شيء، ما زالت تملك ما لا يُسرق: المعنى.
فلافتة واحدة في محطة الحجاز، كانت أقسى من مئة مناظرة سياسية، وأصدق من كل مبادرات السلم الأهلي.
لأنها حملت الصدق وحده، بلا تزيين، بلا تمويل، بلا خطاب مكتوب بعناية.. بل بحبر القلب، وصوت الأرض.
كفرنبل لم تكن تنتظر مشروعية من أحد. كانت تمشي بثقة، وتسخر من الطغيان، وتصرخ في صمت العالم.
كتبت ما لم يجرؤ كثيرون على النطق به، ووقفت في وجه الظلام بلا قناع.
واليوم، حين تعود صورها إلى دمشق، إلى محطة الحجاز تحديدًا، فإنها لا تعود ضيفة، بل صاحبة بيت.
كأنها جاءت لتقول: أنا التي لم أمُت، أنا التي لا تُمحى.
خرجنا من تلك الصور مثقلين بالفخر وبالحزن معًا.
كفرنبل لم تكن صورة جميلة فقط، كانت ذاكرة تُستعاد، وحقًا يُسترد.
وبينما يتحدث البعض عن الحوار والمصالحة، كانت تلك اللافتة تقول كل شيء… بكلمة، بصورة، وابتسامة مريرة.
نعم، كفرنبل اليوم لا تحتاج لمن يتحدّث باسمها.
فلافتتها الوحيدة، المرفوعة على رصيف الحجاز، كانت كافية لتتكلم عنّا جميعًا.