بلال الخلف (تحليل سياسي عن معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى) – تفاصيل برس
في شهادة سياسية لافتة، قدّم ديفيد شينكر، مساعد وزير الخارجية الأمريكي السابق لشؤون الشرق الأدنى في إدارة ترامب الأولى، ملاحظاته أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي حول سوريا “ما بعد الأسد”، وذلك في إطار جلسة خصصت لتقييم السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط بعد التحولات العميقة في دمشق.
الملاحظات، التي نشرها معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، ترسم ملامح مستقبل معقد لسوريا، وتضع الرئيس الجديد أحمد الشرع تحت مجهر التدقيق الدولي. وبينما يعتبر شينكر أن سقوط نظام الأسد “فرصة هائلة” للولايات المتحدة والمنطقة، فإنه في الوقت نفسه لا يُخفي حجم التحديات المقبلة، ويضع واشنطن أمام مسؤولية تاريخية في كيفية التعامل مع النظام السوري الجديد.
الفرصة… والتحدي
يبدأ شينكر ملاحظاته بإعلان واضح: سقوط نظام الأسد مكسب استراتيجي كبير. فمنذ عقود، اعتمد النظام السابق سياسة متعمدة لزعزعة استقرار دول الجوار، وهو ما يعني أن غيابه يمثل، من حيث المبدأ، مكسباً للسلام الإقليمي.
إلا أن هذه الفرصة لا تأتي بلا أثمان. فالرئيس الجديد أحمد الشرع، رغم بداياته الواعدة، يواجه تحديات هائلة في تثبيت الحكم، إدارة التنوع، وإعادة بناء دولة منهكة. وبينما يرى البعض في الشهور الخمسة الأولى من حكمه مؤشرات إيجابية، فإن الغموض ما زال يكتنف نواياه الحقيقية وطبيعة النظام الجديد الذي يسعى لتأسيسه.
الشرع: وعود براقة ومخاوف مشروعة
الشرع، الزعيم الذي لم يعد مجهولًا، تحدث منذ توليه السلطة عن حكومة شاملة، دستور جديد، احترام حقوق المرأة والإنسان، وضمان الحريات الدينية. لا حجاب إجباري حتى الآن، والمشروبات الكحولية لا تزال في الحانات.
لكن هذه الصورة “الليبرالية” تتعرض لاهتزازات خطيرة. فقد جاء الدستور المؤقت بصلاحيات تنفيذية مطلقة، وأثار قلق الأقليات من تركيز السلطات بيد الشرع وتلميحاته إلى الشريعة كمصدر للتشريع. إضافة إلى ذلك، ظهرت مؤشرات محسوبية عائلية مقلقة: تعيين شقيقه ماهر في منصب حساس، ومرافقة شقيقه الآخر في زيارات رسمية.
الاشتباكات الطائفية، رغم طمأنات الشرع، عادت إلى الواجهة، ما أعاد للأقليات ذكريات الحرب وخيباتها.
حكومة بين الإسلاميين والتكنوقراط: توازن هش
حكومة الشرع تضم، بحسب شينكر، عدداً كبيراً من الإسلاميين الأيديولوجيين، ما يطرح تساؤلات حول مستقبل التعددية الدينية والعرقية في البلاد. وإلى جانبهم، لا تزال الميليشيات المسلحة تفرض وقائعها على الأرض، وترفض تسليم سلاحها، خشية أن تقع تحت سطوة من يحمل راية الشرعية الجديدة.
الشرع أمام معضلة: كيف يقنع الأقليات بالنوايا الحسنة؟ وكيف يُنزع السلاح دون إشعال فتيل حرب أهلية جديدة؟
الاقتصاد في غرفة الإنعاش… وإسرائيل على الخط
إلى جانب التحديات الاجتماعية، تقف الاقتصاد السوري المنهار كواحد من أخطر الملفات، خاصة في ظل الضربات الإسرائيلية المستمرة التي تعطل أي جهد لبسط سيطرة الدولة الجديدة. شينكر يرى أن هذه الضربات، رغم مبرراتها، قد تؤدي إلى نتائج عكسية، وتُقوّض مساعي واشنطن في تحقيق الاستقرار.
توصيات أمريكية بـ “واقعية استراتيجية”
شينكر لا يدعو إلى معاداة دمشق الجديدة، بل إلى التعامل معها ببراغماتية حذرة، قائمة على المبادئ التالية:
1. “الشرع يستحق فرصة… ولكن مع التحقق”: يجب وضع مؤشرات واضحة لمحاسبة النظام على أدائه، لا مجرد منحه “شيكاً مفتوحاً”.
2. “خفض التوقعات”: من غير الواقعي أن تتحول سوريا إلى ديمقراطية على النمط الغربي. الأهم هو ضمان الحد الأدنى من الحقوق.
3. “إزالة المقاتلين الأجانب”: هؤلاء كانوا عاملاً حاسماً في سقوط الأسد، لكن استمرارهم يهدد مستقبل المصالحة الوطنية.
4. “استيعاب إسرائيل دون التبعية لها”: يجب الحد من العمليات العسكرية، وتشجيع حوار مباشر مع دمشق.
5. “منع قيام مناطق نفوذ عسكرية”: وجود تركيا وإسرائيل في نفس الخريطة السورية وصفة للتصعيد، ويجب ضبطه.
6. “إدارة التنافس السعودي-التركي”: قد يتحول الصراع على النفوذ إلى عامل هدم إذا لم تتم إدارته بحنكة.
7. “طرد الروس من المعادلة”: إغلاق القواعد الروسية شرط ضروري لاستقلال القرار السوري.
8. “مزارع شبعا… اختبار نوايا”: على الشرع أن يطالب رسمياً بضم المنطقة لإثبات استقلالية القرار السيادي.
9. “مبعوث دائم لسوريا”: إدارة ملف بهذه الحساسية تتطلب تركيزاً كاملاً لا يتوفر لدبلوماسي مزدوج المهام.
خلاصة المشهد: لا أحلام وردية… ولكن أمل واقعي
سوريا ما بعد الأسد ليست جنة الديمقراطية، لكنها قد تكون فرصة أخيرة لإنقاذ الدولة من الانهيار التام. والولايات المتحدة – إن أرادت – يمكنها لعب دور الضامن، لا الوصي، لمستقبل مستقر ومتعدد في هذا البلد المنهك.