عبد الرحمن الناصر – تفاصيل برس
منذ أن أُسدِل الستارُ على آخر فصول الخلافة العثمانية، لم تهدأ عواصف الحلم في العقل الإسلامي الجمعي؛ حلم استعادة الوحدة المفقودة وبعث “الأمة” من جديد. وعلى مدار قرن كامل، تشكلت مسارات شتى وتيارات متناقضة، كلها تسعى للغاية ذاتها ولكن بوسائل مختلفة، لتنحصر في نهاية المطاف ضمن نموذجين رئيسيين، شكّل فشلهما معا منعطفا تاريخيا، أو ما يمكن تسميته “انقلابا” في فكر ومنهج الحركات الإسلامية.
كان التيار الأول، الذي مثّلته حركة “الإخوان المسلمين” في صورتها الأبرز، يراهن على السياسة والمرونة. تحت شعار “سلميتنا أقوى من الرصاص”، تبنت الحركة نهجا براغماتيا سعى للتغلغل في مفاصل الدول والمجتمعات، ونجحت بالفعل في الوصول إلى سدة الحكم عبر صناديق الاقتراع في أكثر من بلد. لكن هذه المرونة المفرطة، وهذا التماهي الذي وصل أحيانا حد الذوبان في أنظمة الداخل وتقاطعات الخارج، كما حصل مع الجماعة في تونس، تحول إلى نقطة ضعف قاتلة. فقد أثبتت التجربة أن “الليونة” الزائدة عن الحد لا تقود إلا إلى العصر والسحق، حيث تعرضت الحركة لنكسات متتالية، مُبدِّدةً فرصا تاريخية كان يمكن أن تغير وجه المنطقة.
قد نجح الإخوان في تجنيد قاعدة شعبية واسعة، فمثلاً فاز مرشحهم محمد مرسي برئاسة مصر عام 2012، وحكموا تونس بعد ثورة 2010، وتبوأت فصائل مستوحاة منهم (مثل حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في فلسطين) مراكز نفوذ سياسية في مراحل سابقة. كما استفادوا من دعم غربي نسبي كبديل عن “الإسلاميين الرجعيين” في بعض الدول.
بالرغم من هذه المكاسب، واجه التيار السلمي إخفاقات كبيرة. فكثيرا ما تعرّض لحملات قمع وحشي من الأنظمة العلمانية، وفقدوا شرعيتهم في جمهورهم حين أخفقوا في التوفيق بين مرجعيتهم الإسلامية والشروط والإملائات التي تجبرهم على اللعب داخل حدود العلمانية، خوفا من تصنيفهم كإرهاب أو وصفهم بالرجعيين. ويُجمع محللون على أن الإخوان «فشلوا في مواجهة قوى الدولة العميقة وإجراء الإصلاحات الضرورية»، ما أدى إلى انكشاف هشاشة مشروعهم السياسي.
على النقيض تماما، قام التيار الثاني على عقيدة القوة المطلقة، رافضا أي حل سياسي أو مهادنة أو حوار. وبلغ هذا التيار ذروته الدموية مع تنظيم “داعش”، الذي قدم أشرس وأعنف تجربة في التاريخ الجهادي الحديث. لقد كانت “دولة الخلافة” التي أسسها التنظيم بمثابة صدمة حضارية، ليس فقط لخصومها، بل وللتيارات الإسلامية ذاتها.
في صيف 2014 أعلن تنظيم داعش قيام «الدولة الإسلامية» وخلافة جديدة على أجزاء واسعة من العراق وسوريا. وللمرة الأولى بسط سيطرته على مدن رئيسية، فاستولَى على أكثر من ثلث مساحة سوريا (بما فيها الرقة) وجزء كبير من العراق (بما فيها الموصل). وخلال سنوات قليلة كان التنظيم يجمع عائدات هائلة من النفط والضرائب وغيرها من وسائل التمويل المشروعة وغير المشروعة.
رغم هذا “النجاح الباهر”، الذي حققه، سرعان ما انقلبتَ المعادلة. فبحلول نهاية 2017 فقدت داعش 95% من أراضيها. ويُعزى هذا الانهيار إلى عدة عوامل رئيسية: كان أبرزها عدم وجود أي حليف له بسبب عقيدته وبنيته الفكرية ما جعله محاطا بالأعداء من جميع الجهات وأصبح محاصرا بين جبهات متعددة استنزفت موارده ورجّحت كفّة الخصوم. كما عجز عن تحصيل اقتصاد منتج يلبي حاجات الكثافة السكانية في مناطق حكمه.
وبدلا من تحقيق النمو، تدهورت مؤسساته وحضوره الاقتصادي، فانهار اقتصاده حرفيا، إضافة إلى ذلك، فإن وحشية داعش قوضت قاعدة أي دعم شعبي طويل الأمد. وبالتالي، فإن مشروعه انتهى بانكسار كامل وفقدان تام للجيوب التي كان يحكمها.
هذا الصعود الصاروخي الذي أعقبه انهيار مدوٍّ، أثبت أن “القسوة” و”التحجر” الفكري لا يقودان إلا إلى الانكسار. فقد كان سقوط “دولة البغدادي” بمثابة درس قاسٍ لكل الحركات الجهادية وخاصة في الساحة السورية التي كانت مختبرا حيا لهذه التحولات.
وسط هذين النقيضين، برزت “هيئة تحرير الشام” كنموذج ثالث حاول التوفيق بين المبادئ والواقعية. اتخذت الهيئة شعاراً عملياً: “لا تكن ليناً فتُعصَر ولا قاسياً فتُكسَر”.
مع فشل تجربة «الخلافة الداعشية»، تغيّرت أساليب التنظيمات الجهادية في سوريا خصوصا. فقد كانت «جبهة فتح الشام» (نشأت عن «جبهة النصرة») النموذج الأبرز لهذا التحوّل. ففي نهاية 2016 أعلن زعيمها أبو محمد الجولاني رسميا فكّ الارتباط عن تنظيم القاعدة، وهو قرار بارز مثّل دخولا في مرحلة جديدة، يصفها بعض المراقبين بالتحوّل البراغماتي. فبحلول 2017 حرصت قيادة الجبهة على مزج الخطاب الجهادي بشعارات «وطنية» تركز على سوريا فقط.
وفي مسعى للبقاء والسيطرة على المناطق المحررة، انضمت عدة فصائل محلية إلى الجولاني وشكلت “هيئة تحرير الشام”، بينما حُيد الكثير من العناصر الموالية للقاعدة.
إلى ذلك، ركّزت الهيئة منذ 2017 جهودها على بناء الإدارة المحلية والحكم في إدلب بأقل قدر من إثارة المخاوف الدولية. فقد “استثمرت في مشروع حكم إسلامي محلي”، كانت تروج له، وبدأت قيادتها تعلن الولاء نظريا للجهاد لكنها عمليا كانت تتصرف ببراغماتية ومرونة. فقد قبلت إجراء تفاهمات مع تركيا، رغم أنها تخالف صرامة الخطاب الجهادي، وذلك لضمان بقائها ومصالحها الأمنية.
إن تحوّل هيئة تحرير الشام من جماعة جهادية إلى «فاعل محلي راسخ» أعاد تشكيل قاعدتها الشعبية ونمط حكمها في إدلب. ومن هنا، أصبح مرجعها السياسي يأخذ طابعا تنافسيا مغايرا عن معسكر الجهاديين العالميين، مع محاولة بناء مؤسسات مدنية تخدم الواقع الإقليمي الذي وجدت نفسها ضمنه.
لا شك أن الساحة السورية شهدت اهتزازا شديدا أثناء محطات الانكسار الكبرى التي مرّت بها الثورة السورية. فبعد خروج المعارضة من عدة مدن رئيسية، بلغ انهيارها ذروته في معركة حلب أواخر 2016؛ إذ أعلنت روسيا بدعم النظام نصرا ساحقا في هذه المعركة بتدمير المدينة وتهجير مئات الآلاف من قاطنيها. أسفر ذلك عن تغيير جذري في بنية القوى الإسلامية المسلحة: فانهارت معظم الفصائل المعتدلة نسبيا (كـ«جيش الإسلام» في الغوطة الشرقية، و«أحرار الشام» في حلب)، وقررت بعضها المصالحة أو الخروج إلى شمال البلاد مع فصائل أخرى كما حصل مع فصائل درعا في الجنوب.
وفي معركة إدلب (2019-2020) شن النظام والروس حملة قصفٍ واسعة تسبّبت بمقتل المئات وتهجير نحو نصف مليون مدني. ونتيجة هذا الضغط العسكري، لم يتبقَ في الشمال الغربي إلا التحالف الذي تقوده هيئة تحرير الشام، وهي التي أظهرت بعدها تطورات تنظيمية وفكرية: فبعد أن كانت جهادية صارمة، عملت على ضبط تياراتها الداخلية.
وفي خطوة رمزية حظيت بتغطية إعلامية محلية، شُنَّت حملة داخلية للقضاء على مجموعات جهادية (مثل “حراس الدين”)، وأعلنت لاحقا حلّها نهائيا، مؤكدة بذلك احتكارها للقرار الجهادي في المنطقة.
وفي المقابل، وجّهت خطابا أقل تشددا يركّز على مواجهة النظام وتقديم الخدمات. يمكن القول إن خطاب هذه التنظيمات السياسي أصبح يميل أكثر إلى الواقعية القصوى والوطنية المحلية (سوريا فقط) بدلا من الخطاب الأيديولوجي العالمي.
كان هذا جليا في الخطاب الدبلوماسي الذي تبنته إبان معركة التحرير (ردع العدوان) وما تلاها، كما طورت خطاباً وطنياً أكثر شمولاً تجاه المكونات السورية. هذا التحول لم يكن تنازلاً عن الهوية، بل كان اعترافاً عملياً بضرورة التفاعل مع النظام الدولي واستيعاب أننا لسنا وحدنا على هذا الكوكب.
نفهم أن الهيئة استوعبت الدرس بذكاء لافت؛ فلا هي استمرأت ليونة الإخوان، ولا هي تمسكت بصلابة داعش. لقد بدأت الهيئة مسارا من المراجعات العميقة والتحولات البراغماتية.
ما يعني أن سنوات الصراع في سوريا، وخاصة بعد 2016، قد أفرزت تحولات فكرية وتنظيمية عميقة لدى الفاعلين الإسلاميين ودفعت مرارةُ التجربة ومشاهداتُ الواقع (فشل الإخوان، سقوط داعش، تحديات الحكم في المناطق المحررة) كثيراً من هذه الحركات نحو:
– البراغماتية العملية في تقديم مصلحة البقاء والمكاسب الميدانية على الطموحات الأيديولوجية المطلقة.
– الانفتاح النسبي كإدراك ضرورة التعامل مع فواعل دولية ومحلية متنوعة، حتى لو كانت خصوماً.
– الخطاب الوطني مع محاولة تجاوز الخطاب الطائفي أو الأممي لبناء قاعدة شعبية أوسع.
– المراجعة الفكرية في إعادة النظر في مفاهيم مثل “الجهاد” و”الولاء والبراء” و”الخلافة” في ضوء التجارب المريرة التي مررنا بها.
لقد مرّت الحركات الإسلامية بنقلة كبرى منذ 1924، فبات لدينا اليوم تيار حاول التغيير السلمي بالمشاركة السياسية والاجتماعية، مقابل تيار آخر راهن على العنف. وما جمع بينهما هو الطموح بالتمثيل الإسلامي للمجتمعات، لكن كلّاً منهما رسم مسارا يعكس خياراته: فالجماعات السلمية نالت بعض النفوذ عبر المؤسسات الاجتماعية والسياسية، وتعرّضت لمطباتٍ سياسية قلّصت أثرها، بل أفنته، بينما المدّ الجهادي صُدم بانتصارات حلفٍ دولي ضاغط وأخطاء داخلية فرّغت مشروعه من معناه.
وفي سوريا خصوصا، فرض الواقع المرير على التنظيمات الإسلامية تحولا؛ حيث انتقلت الغلبة من خطاب الجهاد المطلق إلى خطاب واقعي بعباءة محلية.
لتثبت نفسها مرة أخرى القاعدة السياسية التي تقول: “الثابت الوحيد في السياسة هو المتغير” وأن من لا يتغير ويتأقلم مع المتغيرات يصبح خارج حلبة السياسة.