إبراهيم مخلص الجهني – تفاصيل برس
في تطور لافت، دخلت نحو 1700 شاحنة محملة بالإسمنت من الأردن إلى سوريا في يوم واحد، ليرتفع العدد الإجمالي إلى 10,664 شاحنة منذ بدء عمليات الاستيراد، وهو ما يعادل أكثر من 424 ألف طن من الإسمنت، بحسب تقديرات تعتمد على حمولة وسطية قدرها 40 طناً للشاحنة.
هذه الأرقام الهائلة دقت ناقوس الخطر لدى الصناعيين والخبراء، الذين عبروا عن مخاوف جدية من تداعيات هذا التدفق الكبير على مستقبل صناعة الإسمنت الوطنية، في ظل واقع اقتصادي شديد الحساسية وموارد شحيحة من القطع الأجنبي.
لتحليل أبعاد هذه الظاهرة، تواصلت تفاصيل برس مع الخبير الاقتصادي وعضو جمعية العلوم الاقتصادية محمد بكر، الذي قدم قراءة شاملة لأبعاد ما وصفه بـ”أزمة صامتة” قد تتحول إلى تهديد وجودي للصناعة المحلية إذا لم يتم التعامل معها بحكمة وتخطيط طويل الأمد.
أضرار مباشرة
يرى بكر أن استيراد كميات تفوق حاجة السوق يعرض الصناعة الوطنية لخطر الخروج من السوق، لاسيما أن المصانع المحلية تعمل في ظروف تشغيلية قاسية، تتضمن ارتفاع تكاليف الطاقة، وصعوبات في النقل وتأمين قطع التبديل، إضافة إلى شح القطع الأجنبي اللازم لصيانتها وتطويرها.
ويحذر الخبير من أن توقف أي شركة عن الإنتاج، خاصة في هذا القطاع الحيوي، يعني فقدان مئات العاملين لوظائفهم، ما يؤدي إلى زيادة معدلات البطالة وتوسيع دائرة الآثار الاقتصادية والاجتماعية السلبية، لتشمل سلسلة من المهن والخدمات الداعمة للصناعة (النقل، الصيانة، التوزيع..).
الإغراق
ويتابع بكر: “إذا خرج المنتجون المحليون من السوق، سيسيطر المستورد على السوق بشكل مطلق، ما يعني أننا قد نواجه موجة ارتفاع كبيرة في أسعار الإسمنت، في غياب المنافس المحلي”، وهو ما ستكون له تداعيات كارثية على مشاريع إعادة الإعمار والعقارات، إذ تمثل كلفة الإسمنت عاملاً حاسماً في تسعير أي مشروع إنشائي.
الجودة والمطابقة
وأشار الخبير الاقتصادي إلى تجربة سابقة مؤلمة بين عامي 2007 و2010، عندما تم إدخال إسمنت تركي مخالف للمواصفات الفنية، ما تسبب في أضرار فادحة، داعياً إلى إجراء اختبارات دقيقة في مخابر محلية معتمدة قبل السماح بدخول أية شحنات، ويؤكد أن الاعتماد على شهادات اختبار من الموردين فقط غير كاف، خاصة في مواد بناء حساسة تمس حياة الناس وسلامة المنشآت.
الدعم الذكي
في وجه هذه الموجة، يدعو بكر إلى تطبيق نموذج الدعم الذكي المعتمد في عدة دول، والذي يستهدف رفع تنافسية الصناعة المحلية دون عزلها عن السوق، من خلال تقديم حوافز للإنتاج، وتقييد الاستيراد العشوائي، مع الاستعداد لفتح الباب عند وجود فجوة حقيقية بين العرض والطلب، مشيراً إلى ما فعله الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإعادة الاعتبار للصناعات الأميركية عبر سياسة “الحمائية الذكية”، لتصحيح الميزان التجاري ومواجهة الهيمنة الأجنبية.
الليرة السورية في مرمى النيران
لا يقتصر الضرر على الصناعة فقط، بل يمتد إلى الميزان التجاري وسعر صرف الليرة السورية، إذ أن الاستيراد الضخم للإسمنت يتطلب تمويلاً بالدولار، ما يفاقم الضغط على احتياطيات القطع الأجنبي، ويسهم في تراجع إضافي لقيمة العملة المحلية.
ماذا نحتاج؟
في ختام حديثه، شدد عضو جمعية العلوم الاقتصادية محمد بكر على أن الحل لا يكون بمنع الاستيراد الكلي، بل بضبطه وفق الحاجة الفعلية للسوق، وبالتوازي مع خلق بيئة استثمارية جاذبة للصناعة المحلية، لتأمين الأمن الصناعي ومنع تحوّل سوريا إلى سوق مفتوح للمواد الرديئة والمستوردة دون معايير.
ويختم قائلاً: “من أراد استقطاب الصناعيين السوريين في الخارج، والمستثمرين الأجانب، فعليه أن يبدأ من دعم الصناعة المحلية وتطبيق قوانين عادلة تنظم السوق وتمنع الاحتكار والتدمير الذاتي للإنتاج المحلي”.
مفترق طرق حاسم
ما تشهده الأسواق السورية اليوم ليس مجرد نشاط تجاري، بل تحول هيكلي في بنية الاقتصاد الوطني، فإما أن يدار الملف بوعي وطني استراتيجي، أو نكون أمام موجة جديدة من الإفلاس الصناعي والتبعية الاقتصادية، سيدفع ثمنها المواطن أولاً وأخيراً.
القرار الآن بيد الجهات المعنية: هل ستستمر في فتح الأبواب أم تبدأ بكتابة دستور جديد للصناعة السورية؟