محمد جمال طحان – تفاصيل برس
لم أكتب عنه حين توفى، ولم أكتب عن ابنه حين تمّ التوريث؛ خبّأت فرحي إلى ما بعد التحرير.
في مثل هذا اليوم من عام 2000، أعلن التلفزيون السوري ــ بعد تمهيد بطيء وموسيقى جنائزية تشبه صوت معدة فارغة ــ “النبأ العظيم”: وفاة القائد الخالد، الملهم، المفكر، الشاعر، الفلكي، واضع لبنات الكون، حافظ الأسد. نعم، مات الرجل الذي ظنّ أن الهرم الأكبر سيغار من طول بقائه، والذي كتب على واجهات المدن: “قائدنا إلى الأبد”، وكأنّه قد أقنع ملك الموت بالهدنة.
تاريخ حافظ الأسد ليس صفحة سوداء، بل موسوعة فحمية. حكم سوريا بالحديد والنار منذ عام 1970، وقبلها شارك في انقلابات كأنها هواية نهاية الأسبوع. أفرغ البلاد من السياسة، والكرامة، وحتى من الحكايات. من مذبحة سجن تدمر إلى مجازر حماة، ومن تغريبة الشعب السوري في المنافي إلى سحق كل صوت مخالف، كانت “سوريا الأسد” مختبرًا لأسوأ ما يمكن أن تفعله الأنظمة ببلادها.
لكن، عندما جاء يومه، لم تهتف الجماهير كما اعتادت. لم يُذرف دمع كثير، بل كان هناك شيء خفي في العيون، بريق.. كأنّه “فرح مكبوت”! في القرى، انطلقت المفرقعات خلسة. في المدن، ارتفعت الأدعية سرًّا: “اللهم خذ الباقين على دربه!” حتى الصامتون كانوا يبتسمون في دواخلهم مثل من نجا، بأعجوبة، من حادث سير قاتل، ولم يصدّق بعد. في المقاهي، نظر الناس لبعضهم نظرة غريبة، فيها تساؤل وفيها احتفال مكتوم.
أحدهم قال مازحًا: “إذا حافظ الأسد دخل القبر، يعني الجدران صارت صمّاء.
في البيوت، لم تكن رائحة الحزن تفوح، بل رائحة الحذر. الأب يفتح الراديو على صوت القرآن، بينما يهمس لزوجته: – “ما تصحي الولاد… خليهم يحلموا بحياة جديدة شوي.”
أما أجهزة الأمن، فقد بكت بحرارة. ليس حبًا بالرجل، بل خوفًا من أن تنهار “المنظومة”، أو أن تنقطع الكهرباء عن أبراج التعذيب.
وبدأت ترتيبات التوريث: من الدبابة إلى القبر، ومن القبر إلى العيادة المزعومة التي استُخرج منها بشار الأسد، “الرئيس بالصدفة”، ووريث الجمهورية كأنها مزرعة عائلية. في ذكرى موته، تُنكّس أعلام الحزن في القلوب التي لم تنسَ: الصوت المبحوح في محاكم التفتيش، وآثار الأحذية العسكرية على الوجوه، والصور التي احتلت كل جدار. مات حافظ الأسد. نعم. لكنه ترك خلفه نظامًا يقول لك: لا تفرح كثيرًا… لم نبدأ الكابوس بعد.
لكننا، بعد عقود من المخاض، صار بوسعنا الفرح بملء قلوبنا لأننا دحرنا الابن الشرير الذي جثم على صدور السوريين ربع قرن. أصبحنا نشمّر عن سواعدنا لنعيد بناء بلادنا كما يجب أن تكون.