إبراهيم مخلص الجهني – تفاصيل برس
في وقت أعلن فيه البنك الدولي عن تحديث خط الفقر العالمي ليبلغ 3 دولارات للفرد يومياً، تزداد التحديات الاقتصادية التي تواجهها الأسر السورية، وتغوص البلاد أكثر فأكثر في مستنقع الفقر، فالرقم الجديد الصادر عن المؤسسة الدولية لا يعد فقط معياراً تقنياً، بل مرآة تعكس مدى تدهور الوضع المعيشي في البلدان المتأزمة، وعلى رأسها سوريا.
في تصريح خاص لـ”تفاصيل برس”، بين الأستاذ الجامعي شفيق عربش أن سوريا في موقع متدنٍ جداً من حيث مؤشرات الفقر، فحتى عندما كان خط الفقر 1.75 دولار يومياً، كانت التقديرات تشير إلى أن نحو 90% من السوريين تحت هذا الخط، فما بالك اليوم، مع رفعه إلى 3 دولارات، أي نحو 900 ألف ليرة سورية شهرياً للفرد، أو ما يقارب 4 ملايين ليرة لأسرة من 4 أفراد، في حين لا تتجاوز الرواتب الشهرية في أحسن حالاتها 400 ألف ليرة.
فجوة شاسعة
تشير الحسابات البسيطة إلى أن الأسرة السورية تحتاج، وفق خط الفقر الجديد، إلى حوالي 12 دولاراً يومياً، بينما لا يتجاوز الدخل الشهري لها 80 دولاراً في أفضل السيناريوهات، إذا كانت تعتمد على معيلين عاملين، وهذه الهوة العميقة بين الدخل والإنفاق الضروري تفسر أسباب ارتفاع مستويات الفقر إلى مستويات غير مسبوقة.
وأضاف عربش أن الفقر في سوريا ليس مجرد رقم، بل واقع ملموس تكرّس على مدى 14 عاماً من الحرب، والعقوبات، والنزوح، وتفكك البنية الإنتاجية، وتفشي البطالة، والجفاف الذي طال البلاد لعقدين، عدا عن تبعات جائحة كورونا التي شلّت النشاط الاقتصادي.
أسباب مركبة
ويرى عربش أن الانهيار المعيشي مرتبط بجملة من العوامل المتشابكة، على رأسها التضخم المزمن وانخفاض قيمة الليرة، وهما عاملان يغذيان بعضهما البعض، مبيناً أنه عندما تنخفض قيمة العملة ترتفع الأسعار، ما يؤدي إلى تآكل القدرة الشرائية، لتتراجع معها مستويات المعيشة حتى للفئات العاملة، وهذه حلقة مفرغة لا يمكن كسرها دون تدخلات اقتصادية جدية، تبدأ من ضبط الأسواق، إلى الحفاظ على استقرار سعر الصرف، مبيناً أن الأمن الغذائي بات مهدداً بشكل جدي، حيث تشير مسوح أجراها برنامج الأغذية العالمي إلى أن نحو 65% من السوريين يعانون من انعدام الأمن الغذائي، بل إن بعض العائلات تكتفي بوجبة واحدة يومياً.
لا موارد كافية
حول السياسات الممكنة للتخفيف من الفقر، أوضح عربش أن الموارد العامة للدولة لا تسمح حالياً بإطلاق برامج حماية اجتماعية فاعلة، وأن الفرصة الوحيدة المتاحة اليوم هي الاستفادة من قرار رفع أو تعليق بعض العقوبات، وتحويل هذه النافذة إلى إطلاق عملية إنتاجية حقيقية تكسر الاحتكار وتعيد الروح إلى السوق، ولكن هذه العملية تصطدم بعقبات حقيقية، أبرزها غياب الكهرباء كعنصر حيوي لأي نشاط اقتصادي، وارتفاع أسعار الطاقة، إضافة إلى غياب بيئة تشريعية وتنظيمية مستقرة تشجع الاستثمار والمنافسة.
أزمة الجفاف الزراعي والمالي
وفي معرض حديثه عن التراجع في القطاع الزراعي، يلفت عربش إلى أن سوريا كانت تعرف بأنها بلد زراعي، لكن الجفاف المستمر منذ مطلع القرن والاختلالات في توزيع المياه نتيجة سياسات تركيا المائية فاقمت الوضع قائلاً: نحن بحاجة إلى خطة زراعية وطنية تأخذ بعين الاعتبار أزمة الجفاف ومحدودية المياه، ودونها لن يكون هناك أي أفق لاستعادة التوازن الغذائي والإنتاجي.
أما فيما يتعلق بالديون، فقد أشار عربش إلى أن ما دفعته السعودية وقطر مؤخراً (15.5 مليون دولار) يندرج ضمن اشتراكات سوريا في صندوق النقد والبنك الدولي، ما قد يفتح الباب أمام إمكانية الاستفادة من برامج الدعم، مؤكداً دعمه لمبدأ “بناء سوريا بدون قروض خارجية” لحماية القرار السيادي.
اللاعدالة في توزيع الثروة
وفي ختام حديثه، يسلط الأستاذ الجامعي شفيق عربش الضوء على واحدة من أعمق جذور الفقر في سوريا، وهي اللاعدالة في توزيع الدخل القومي، حيث أن 5% فقط من السوريين يسيطرون على 40 إلى 50% من الثروة الوطنية، وكلما تمركزت الثروة في يد القلة، ازداد الفقر بين الأغلبية.
بالتالي الواقع السوري أمام تحد وجودي، فالفقر لم يعد رقماً في تقارير المنظمات الدولية، بل واقع يومي يهدد الكيان المجتمعي والاقتصادي للدولة، والمطلوب اليوم، كما يرى الخبراء، ليس انتظار المساعدات، بل خلق سياسات محلية واقعية تعيد تشغيل عجلة الإنتاج وتضبط السوق وتعيد توزيع الموارد بشكل عادل، بما يضمن الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية.