إبراهيم مخلص الجهني – تفاصيل برس
في خضم واحدة من أكثر اللحظات حساسية في الشرق الأوسط منذ عقود، ألقى التصعيد العسكري الأخير بين إسرائيل وإيران بظلال ثقيلة على أسواق الطاقة العالمية، ودفع بأسعار النفط والغاز إلى تسجيل قفزات مفاجئة، أعادت للأذهان هشاشة السوق أمام الأزمات الجيوسياسية، فبينما كانت الضربات الجوية تهز مدنا في الداخل الإيراني، كانت الأسواق تشتعل على الجانب الآخر، مدفوعة بمخاوف لا تتعلق بالحاضر فقط، بل بمستقبل تدفقات الطاقة في واحدة من أكثر المناطق حيوية في العالم.
ولم تنتظر الأسواق تحقق الأسوأ، بل بدأت تسعير الخطر مباشرة، في مؤشر واضح على عمق ارتباط أمن الإمدادات بأسعار الطاقة، خصوصاً عندما يكون مصدر التهديد قريباً من مضيق هرمز، الشريان الذي يمر من خلاله نحو خمس تجارة النفط العالمية.
النفط في مرمى الجغرافيا
التفاعل السريع للأسواق لم يكن مفاجئاً للمراقبين، فإيران ليست فقط دولة نفطية كبيرة، بل إنها تتمركز على عتبة المضيق الذي لا يتجاوز عرضه 33 كيلومتراً، ومع ذلك تمر عبره أكثر من 19 مليون برميل نفط يومياً، وهذا الواقع الجغرافي وحده كفيل بتحريك السوق عند أي تهديد، حتى لو لم تمس آبار النفط أو منشآته بشكل مباشر.
خلال جلسة واحدة، قفز خام برنت بنسبة تقترب من 13%، قبل أن يغلق مرتفعا بنسبة 8% عند مستوى 74 دولارا للبرميل، وهو الأعلى منذ شهور، ولم يكن هذا الصعود نتيجة نقص فعلي في الإمدادات، بل انعكاساً لحالة من الذعر الاستثماري، دفعت المشترين إلى تسريع عقود التحوط، وسط تخوف واسع من تدهور أمني واسع النطاق قد يعطل الملاحة البحرية في الخليج.
السيناريو الأسوأ
هذا الصعود المفاجئ ترافق مع تحليلات أكثر تشاؤماً من المعتاد، إذ اعتبر وارن باترسون، رئيس استراتيجية السلع في “آي إن جي”، أن أي تصعيد مستمر قد يعرض نحو 14 مليون برميل يومياً للخطر إذا ما تأثرت حركة الشحن عبر المضيق، وتحت هذا السيناريو، لن تكون الأسعار عند 74 دولاراً سوى محطة مؤقتة، بينما الطريق إلى 120 دولارا للبرميل قد يصبح أكثر احتمالاً من أي وقت مضى.
في المقابل، دعا محللون آخرون إلى قراءة متوازنة للمعطيات، محذرين من المبالغة في تقدير التأثيرات، واعتبر هنيك فونغ من “بلومبرغ إنتليجنس” أن السوق تسعر المخاطر بناء على ذروتها وليس على أساس الاحتمالات الواقعية، مشيرا إلى أن صعود أسعار خام غرب تكساس إلى 90 دولاراً قد يكون مؤقتاً، وأن الضغوط من جانب العرض أو تباطؤ الطلب لاحقاً قد تعيد الأسعار إلى ما دون 50 دولاراً للبرميل.
الوكالة الدولية للطاقة تتحدث عن فائض قادم
في خضم هذا الجدل، بدت وكالة الطاقة الدولية أكثر تحفظاً، حيث أكدت أن السوق بصدد الدخول في مرحلة من الفائض خلال النصف الثاني من 2025، مدفوعة بقرار “أوبك+” بالتخلي تدريجياً عن التخفيضات الطوعية، وأشارت إلى أن هذا الفائض المحتمل قد يقلص من التأثير طويل الأمد لأي تصعيد عسكري، ما لم يؤد إلى توقف فعلي في الإمدادات.
ولكن هذه التطمينات قوبلت بتحذيرات حادة من الأمين العام لمنظمة “أوبك”، هيثم الغيص، الذي اتهم الوكالة بإرسال “إشارات إنذار خاطئة”، وقال إن التلميح باستخدام الاحتياطات الاستراتيجية للنفط يزرع الخوف في السوق بشكل غير مبرر، والغيص حذر من تكرار سيناريو 2022 حين أدت تحليلات متسرعة إلى الإفراج عن كميات كبيرة من الاحتياطي الاستراتيجي، في توقيت ثبت لاحقاً أنه لم يكن ضرورياً.
الغاز يدخل على خط الأزمة
التوترات لم تقتصر على أسواق النفط، إذ شهدت أسعار الغاز في أوروبا ارتفاعاً ملموساً بنسبة 5.7%، وسط مخاوف متزايدة من احتمال توسع رقعة النزاع ليشمل مناطق إنتاج وتصدير حيوية للغاز، والضربة الإسرائيلية لإيران دفعت السلطات الإسرائيلية إلى إغلاق حقل “ليفياثان”، وهو أكبر حقولها الغازية البحرية، في إجراء احترازي أمني، لكن تداعياته امتدت خارج الحدود.
وفي مصر، أعلنت وزارتا الكهرباء والبترول حالة الطوارئ، في ظل اعتماد البلاد على الغاز الإسرائيلي لتأمين احتياجات الكهرباء الصيفية، ومع تقليص الضخ مؤقتاً، باتت القاهرة مضطرة إلى تسريع وتيرة استيراد الغاز المسال من الأسواق العالمية، ما يشكل عبئاً مالياً إضافياً ويزيد الضغط على سوق الغاز الدولية.
ردود الفعل اللحظية أم تحولات استراتيجية؟
الأسواق تميل إلى المبالغة في ردود الفعل الأولية، ثم تعود تدريجياً إلى مسار أكثر عقلانية بمجرد انقشاع غبار الحدث، وهذا ما يعرف بـ “الارتفاع اللحظي”، حيث تقفز الأسعار بناء على مخاوف آنية، لكنها لا تلبث أن تهبط عند وضوح الصورة وغياب الضرر الفعلي، ولكن هذا لا يمنع أن بعض الأزمات قد تؤدي إلى تغييرات دائمة في اتجاهات السوق، خصوصاً إذا ما طال أمد التوترات أو نتج عنها اضطرابات مزمنة في خطوط الإمداد.
الفرق الجوهري بين الصدمة العابرة والتحول البنيوي يكمن في مدى قدرة السوق على التكيف مع الواقع الجديد، ومدى استجابة الحكومات والمؤسسات الدولية لمواجهة التحديات بمزيج من السياسات الإنتاجية والدبلوماسية.
ويبقى المشهد معلقا بين سيناريوهين: أحدهما يحذر من اندلاع أزمة كبرى قد تعيد رسم خريطة الطاقة العالمية، وآخر يدعو إلى الهدوء والركون إلى المعطيات الفعلية، وبين هذا وذاك، تواصل الأسواق حبس أنفاسها، ترقباً لأي بيان عسكري جديد، أو صاروخ قد يطلق في عمق الصحراء… لكنه في الحقيقة يلامس براميل النفط عند كل نقطة على الخريطة.


























































































