حسين خاروفة – تفاصيل برس
اعتاد الشعب السوري في ظل حكم نظام الأسد البائد على نمط سلبي من العلاقة بين المواطن من جهة، والمؤسسات والموظف العام وخاصة في المناصب العليا من جهة أخرى، إذ يمكن اعتبارها علاقة تغيب فيها الثقة وينقطع فيها التفاعل، وترتبط بمنطق الحاكم والمحكوم.
ولعل هذا النمط كان من الأسباب الرئيسة لانطلاق الثورة السورية. لذلك، يمكن التفكير اليوم في ظل التغييرات الكبيرة التي تشهدها سوريا، في الحاجة الملحة إلى إعادة تعريف العلاقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، والانتقال من النموذج التقليدي الأحادي الجانب، الذي يفتقر إلى التفاعل والمشاركة الحقيقية ويهمّش صوت المواطن، إلى النموذج التفاعلي التشاركي الذي يضع المواطن في صلب العملية التنموية ويجعل منه شريكاً أساسياً فيها.
إن التفاعل الإيجابي بين الطرفين، والاستماع إلى صوت المواطن، يمثل ركيزة أساسية لبناء دولة حديثة وقادرة على تلبية تطلعات شعبها
ولعل ما شهدنا في الآونة الأخيرة من التفاعلات الإيجابية الفردية من قبل بعض المسؤولين الحكوميين على وسائل التواصل الاجتماعي مع قضايا واقتراحات المواطنين، والتي أثارت مشاعر إيجابية لدى الجمهور، تمثل بداية مرحلة جديدة تُأسس لعلاقة أكثر تفاعلاً ومشاركة بين بين المواطن والحكومة.
لكن السؤال الأهم اليوم هو: كيف يمكن الانتقال من هذه التفاعلات الفردية العابرة إلى استدامة مؤسسية راسخة؟ وما هي الأسس التي يقوم عليها هذا النهج المستدام؟ يسعى هذا المقال لمناقشة أهمية وضرورة إنشاء قنوات تواصل فعّالة ومستدامة بين المواطنين والمؤسسات الحكومية في سوريا، وطرح أفكار تساعد في مأسسة هذه الجهود ضمن الهيكل المؤسساتي للدولة، واعتماد آليات إجرائية فعالة تستثمر إمكانات تكنولوجيا الاتصالات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي.
شكل تفاعل المسؤولين مع قضايا المواطنين التي تم طرحها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي بداية محمودة، وشجعت المبادرة لدى المواطنين للمشاركة وطرح الآراء والاقتراحات، وتسليط الضوء على القضايا الحيوية التي تمثل أولويات المجتمع، لكن ضمان استدامة هذا التواصل يتطلب مأسسة هذه الجهود ودمجها في صلب العمل المؤسساتي للدولة. فالتفاعل الفردي، وإن كان يعكس حسن نية واستجابة سريعة في بعض الأحيان، إلا أنه يظل رهيناً بالمبادرات الشخصية وقد يتلاشى مع تغير الأشخاص أو الأولويات. في المقابل، يضمن النهج المؤسسي المستدام استمرارية التواصل وفعاليته بغض النظر عن الأفراد، ويؤسس لثقافة مؤسسية قائمة على الشفافية والمساءلة والمشاركة. هذا النهج لا يعتمد على “اللفتات” العابرة، بل على ممارسات راسخة تضمن تدفق المعلومات والاستجابة المنظمة.
وفي ضوء التوجه الحكومي في تطوير البنية التحتية للاتصالات الرقمية، والبدء برفع القيود التي كانت مفروضة خلال السنوات الماضية على قطاع الاتصالات، يمكن القول ان وسائل الاتصال الرقمية يمكن أن تلعب دوراً حيوياً في تسهيل وتسريع التواصل بين المواطنين والمؤسسات الحكومية، ففي مرحلة التحول التي تشهدها سوريا، أصبح صوت المواطن عنصراً بالغ الأهمية، حيث لم يعد المواطنون مجرد متلقين للخدمات بل شركاء أساسيين في بناء المستقبل.
لذا، فإن إتاحة قنوات تواصل فعالة، تتسم بالمرونة والبساطة، تمثل ضرورة قصوى. هذه القنوات تعزز الشفافية والمساءلة بجعل أداء المؤسسات الحكومية أكثر عرضة للتقييم العام، وتحسن جودة الخدمات العامة من خلال الاستماع إلى شكاوى واقتراحات المواطنين ومعالجتها بفعالية.
كما أنها تبني الثقة بين المواطن والدولة عبر تواصل فعال ومستمر، وتوسع قاعدة المشاركة في صنع القرار بإشراك المواطنين في تقديم الاقتراحات والأفكار لإثراء العملية وضمان استجابة السياسات والبرامج لاحتياجات المجتمع.
يجب أن تكون هذه القنوات سهلة الاستخدام حتى للأشخاص غير المتعلمين، وأن تتكيف مع مختلف الظروف والاحتياجات. هذا التحول لا يمكن ان يكون الا ضمن تبني الحكومة استراتيجية واضحة للتواصل الحكومي بأهداف محددة وآليات عمل واضحة ومؤشرات أداء قابلة للقياس، تكون بمثابة خارطة طريق لضمان أن يكون التواصل مع المواطنين منتظماً، ومتسقاً عبر جميع مؤسسات الدولة وتشمل هذه الاستراتيجية:
أولاً: تحديد رؤية واضحة للتواصل الحكومي تتماشى مع الأهداف الوطنية لبناء سوريا الجديدة.
ثانياً: وضع سياسات وإجراءات موحدة لضمان الاتساق والفعالية في جميع أشكال التواصل الحكومي.
ثالثاً: تخصيص الموارد اللازمة من ميزانيات وكوادر بشرية مؤهلة لدعم أقسام التواصل.
رابعاً: الاستفادة من التجارب الدولية في مجال التواصل الحكومي الفعال، وتكييفها بما يتناسب مع السياق السوري.
ويمكن النظر هنا الى العديد من التجارب العربية والدولية التي استثمرت في وسائل الاتصال الرقمية لتحسين جودة الخدمات الحكومية وبناء شراكة فاعلة مع المواطن، مثل تجربة الامارات العربية المتحدة، حيث أطلقت مجموعة من المبادرات والبرامج في سبيل بناء جسور قوية من الثقة بين الحكومة والمواطنين، وتعزيز مشاركة المجتمع من مقيمين ووافدين في صناعة القرار ووضع الخطط والاستراتيجيات المستقبلية، وتقييم الأداء العام للمؤسسات الحكومية، عبر منصات رقمية تفاعلية.
إن تبني هذه الرؤية وتطبيقها على أرض الواقع سيمثل خطوة حاسمة نحو تحقيق تطلعات الشعب السوري في بناء مستقبل أفضل، حيث يكون المواطن شريكاً في كل قرار، وصوته مسموعاً وفاعلاً في كل مرحلة من مراحل التنمية
ولمأسسة وضمان فعالية هذه القنوات لا بد من إنشاء قسم متخصص للتواصل والرصد والمتابعة في كافة المؤسسات الحكومية، حيث يمثل خطوة حاسمة لضمان فعالية واستدامة جهود التواصل مع المواطنين. يمكن تلخيص مهام هذا القسم في النقاط الرئيسية التالية:
- تلقي وتسجيل الشكاوى والاقتراحات الواردة من مختلف القنوات عبر منصات مركزية أو بوابات إلكترونية خاصة بكل مؤسسة تتيح للمواطنين تقديم شكواهم ومقترحاتهم بسهولة وتتبع حالتها، مع إمكانية إبلاغهم بالنتائج.
- تحليل وتصنيف القضايا وتوجيهها للجهات المعنية داخل المؤسسة، مع ضمان وصولها إلى صناع القرار.
- متابعة المعالجة والتنسيق بين الأقسام المختلفة، والتأكد من التعامل الجدي وفي الوقت المناسب مع القضايا المطروحة.
- تزويد المواطن بالمعلومات حول الإجراءات المتخذة والنتائج، لتعزيز الشفافية وبناء الثقة.
- تفعيل قنوات التواصل الاجتماعي بشكل مؤسساتي للرد على استفسارات وتعليقات المواطنين بشكل منهجي ومهني.
- تطوير تطبيقات سهلة الاستخدام تتيح الوصول إلى الخدمات الحكومية وتقديم الشكاوى والاقتراحات في أي وقت ومن أي مكان، مع مراعاة البساطة في التصميم وسهولة الاستخدام.
- إعداد تقارير دورية وتحليل الاتجاهات لتحديد المشكلات المتكررة وتقديم التوصيات لتحسين الأداء المؤسسي والسياسات العامة.
إن الاستثمار في بناء قنوات تواصل فعالة ومستدامة بين المواطن والمؤسسات الحكومية ليس مجرد خيار تكتيكي، بل هو ضرورة استراتيجية لمستقبل سوريا.
من خلال مأسسة هذه القنوات وتفعيلها بشكل عملي، يمكن للدولة أن تستفيد من طاقات وقدرات جميع أبنائها، وتحويل التحديات إلى فرص للنمو والتطور.
صوت المواطن السوري يمثل اليوم قوة دافعة نحو بناء سوريا الجديدة، القائمة على الشفافية والمساءلة والمشاركة الفعالة.
وبالتالي: إن تبني هذه الرؤية وتطبيقها على أرض الواقع سيمثل خطوة حاسمة نحو تحقيق تطلعات الشعب السوري في بناء مستقبل أفضل، حيث يكون المواطن شريكاً في كل قرار، وصوته مسموعاً وفاعلاً في كل مرحلة من مراحل التنمية.