إبراهيم مخلص الجهني- تفاصيل برس
تعد صناعة الإسمنت إحدى الركائز الأساسية في أي عملية إعادة إعمار، لا سيما في الدول الخارجة من النزاعات الممتدة. وفي الحالة السورية، تبرز هذه الصناعة كقطاع استراتيجي في ظل الحاجة المتزايدة لمواد البناء، خاصة مع التقديرات التي تشير إلى دمار أكثر من مليوني وحدة سكنية، ورغم ذلك، تواجه هذه الصناعة تحديات كبيرة.
أبرزها تدهور القدرة الإنتاجية نتيجة التدمير واسع النطاق لمرافقها خلال سنوات النزاع، إضافة إلى تراجع كفاءة البنى التحتية ونقص الاستثمارات، وتشير تقديرات متخصصة إلى أن البلاد تحتاج إلى إنتاج ما بين 60 و80 مليون طن من الإسمنت خلال العقد القادم، بمعدل وسطي يبلغ 6–8 ملايين طن سنوياً، بهدف تلبية متطلبات إعادة الإعمار السكني والبنى التحتية والمؤسسات العامة.
البنية المؤسسية الحكومية
تتنوع خارطة معامل الإسمنت في سوريا بين القطاع العام والخاص، وتظهر تفاوتاً كبيراً في القدرة التشغيلية، ومدى التأثر بالحرب، ومستوى التحديث التقني، وهو ما ينعكس بشكل مباشر على القدرة الكلية لتلبية الطلب المحلي.
المعامل الحكومية وبالرغم من كون معامل القطاع العام العمود تمثل الفقري التاريخي لصناعة الإسمنت في سوريا، لكنها تعاني من تقادم المعدات وتراجع كفاءة التشغيل وهي تشمل:
- شركة إسمنت حماة: تضم ثلاثة معامل. المعمل الأول يعمل وفق الطريقة الرطبة وقد توقّف عن الإنتاج بسبب استهلاكه العالي للوقود وتقادُم معداته، بينما المعمل الثاني متوقف منذ عام 2012. أما المعمل الثالث، فقد دخل مؤخراً مرحلة الإحماء بطاقة تصميمية تصل إلى 3300 طن يومياً، تمهيداً لإعادة الإقلاع.
- معمل طرطوس: يمتلك أربعة خطوط إنتاج، غير أن الأعطال التقنية المزمنة أدت إلى انخفاض إنتاجيته التي لم تتجاوز 1250 طناً يومياً بحلول عام 2015.
- معمل الرستن (حمص): خرج عن الخدمة منذ سنوات طويلة، باستثناء مطحنة الإسمنت التابعة له، والتي لا تزال تعمل بطاقة 20 طناً في الساعة، مما يوفر دعماً جزئياً لبعض الاحتياجات المحلية.
- معمل عدرا (ريف دمشق): يُعد من أكثر المعامل العامة قدرة على الاستمرار، حيث يضم ثلاثة خطوط إنتاج بطاقة كلية تتراوح بين 2500 و2700 طن يومياً من مادة الكلينكر.
- معمل العربية (حلب): يخضع حالياً لعمليات تأهيل شاملة من قبل مستثمر خاص، مع خطة لإعادة تشغيله بطاقة إنتاجية سنوية تصل إلى مليون طن.
- معملا المسلمية والشيخ سعيد (حلب): خرجا عن الخدمة بشكل شبه كامل، بسبب التدمير الكلي أو الاعتماد على طرق إنتاج قديمة وغير مجدية اقتصادياً.
في المقابل، يبرز القطاع الخاص كجهة أكثر مرونة وكفاءة في إدارة الموارد، وتعد شركة إسمنت البادية نموذجاً رائداً، إذ تبلغ طاقتها الإنتاجية حوالي 1.65 مليون طن سنوياً، وتتميز بتقنيات تشغيل حديثة نسبياً، مما يجعلها في موقع تنافسي أفضل مقارنة بمؤسسات القطاع العام.
السياسات الإصلاحية والتحديات البنيوية
في محاولة لتحفيز القطاع الصناعي عموماً، وصناعة الإسمنت خصوصاً، بادرت الحكومة إلى سلسلة إجراءات إصلاحية، أحد أبرز الإجراءات كان إلغاء ما يعرف بـالضمائم، وهي رسوم إضافية كانت تُفرض على المنتجين المحليين، ضمن ما يُشبه الإتاوات القانونية، وقد اعتبر هذا القرار خطوة استراتيجية نحو تخفيف الأعباء المالية عن الصناعة، وتهيئة بيئة أكثر مرونة للإنتاج.
ورغم أهمية هذه الخطوة، تبقى التحديات البنيوية قائمة، خاصة فيما يتعلق بارتفاع كلفة الإنتاج مقارنة بالدول المجاورة. فعلى سبيل المثال، يبلغ سعر طن الإسمنت في السوق السورية نحو 95 دولاراً (أرض المعمل)، بينما لا يتجاوز 50 دولاراً في الأردن، ويعزى هذا التفاوت إلى ارتفاع تكاليف الطاقة، وصعوبة تأمين قطع الغيار، وتداعيات العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد.
البعد الاقتصادي والاجتماعي
لا تقتصر أهمية صناعة الإسمنت على بعدها الصناعي فحسب، بل تمتد إلى مستويات أعمق، تشمل الاقتصاد الكلي وسوق العمل والتنمية العمرانية حيث تؤثر هذه الصناعة بشكل مباشر في تكاليف البناء وأسعار العقارات، كما أنها تعد من الصناعات كثيفة التشغيل، ما يجعلها مصدراً مهماً لفرص العمل.
وتشير تقديرات مدير عام شركة “عمران” إلى أن دعم المنتج المحلي عبر تخفيف الأعباء الضريبية والرسوم يساهم في تعزيز الناتج المحلي الإجمالي، ويزيد من جاذبية الاستثمار الوطني والأجنبي في هذا القطاع الحيوي، كما أن تطوير صناعة الإسمنت يعتبر أداة فعالة لدفع عجلة إعادة الإعمار، إذ أن تخفيض التكاليف من شأنه أن ينعكس على أسعار المشاريع الإنشائية، بما في ذلك المساكن والبنى التحتية والخدمات العامة.
الإسمنت بين التحديات والفرص
تكشف قراءة الواقع الراهن لصناعة الإسمنت في سوريا عن مفارقة واضحة أن القطاع مثقل بالأعباء ويعاني من شلل جزئي، لكنه في الوقت ذاته يحمل فرصاً واعدة للنهوض، إذا ما أُحسن توظيفها ضمن إطار استراتيجي شامل.
كما إن الوصول إلى مرحلة الإنعاش الكامل لهذا القطاع يتطلب أكثر من مجرد إجراءات جزئية، بل يتطلب رؤية اقتصادية متكاملة، تقوم على تطوير البنية التشريعية، وتوسيع نطاق الشراكات بين القطاعين العام والخاص، والاستثمار في التقنيات الحديثة، مع تعزيز أدوات التمويل الصناعي ودعم التصدير.
وبينما لا تزال الطريق أمام صناعة الإسمنت طويلة، فإن الخطوات الحالية – على محدوديتها – تشكل بداية يمكن البناء عليها، إذا ما تم التعامل معها برؤية مؤسساتية متماسكة واستراتيجية تنموية واضحة.