دانا برجاس – تفاصيل برس
لم تعد العملات الرقمية مجرّد حديث يدور بيّن خبراء التكنولوجيا أو مجرّد وسيلة للربح السريع في أسواق الكريبتو. اليوم، دخلت هذه العملات قلب المعركة بين القوى العالمية الكبرى، ووسط هذه التحوّلات يظهر “الدولار الرقمي” كأداة استراتيجية للولايات المتحدة، قد تكون أحد أهم أسلحتها الناعمة في وجه منافسيها، وخاصة الصين.
في عام 2019، عندما أعلن مارك زوكربيرغ عن مشروعه “ليبرا”، لم تقف الصين موقف المتفرج. رأت في العملة الجديدة تهديداً مباشراً لسيادة عملتها، وبدأت على الفور بتسريع مشروع اليوان الرقمي. لكنها تنفّست الصعداء لاحقًا حين تم إجهاض مشروع “ليبرا” على يد الجهات التنظيمية الأمريكية، واعتقدت أن الفرصة أصبحت في صفّها.
لكن لم تكن تلك نهاية القصة. من الداخل الأميركي نفسه بدأت العملات المستقرة مثل USDT وUSDC تفرض وجودها في نظام الدفع العالمي. ومع دعم سياسي من شخصيات وازنة مثل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ووزير الخزانة الحالي، بات الدولار الرقمي موضوعاً جاداً أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً بعد صدور قانون ينظم هذه العملات.
عالم التكنولوجيا ينضم إلى السباق
لم تكتف الحكومة الأمريكية بالقوانين، بل فتحت المجال أمام الشركات الكبرى للدخول إلى الساحة. “كوينبيس” أعلنت دعم USDC في مواقع تجارة إلكترونية مثل “شوبيفاي”، وبدأت “أمازون” و”وول مارت” دراسة فكرة إطلاق عملات رقمية خاصة بهما. الأمور لم تعد مجرّد تكهّنات. حتى أسهم “فيزا” و”ماستركارد” تراجعت بعد صدور القانون، في إشارة إلى أن التغيير بدأ فعلاً.
من محفظتك إلى السياسات الدولية
الدولار الرقمي ليس مجرد تطور مالي، بل تحوّل إلى أداة سياسية. هو وسيلة للولايات المتحدة لتجديد هيمنتها الاقتصادية بطرق أكثر مرونة. وبما أن العالم ما زال يعتمد على الدولار، فإن إطلاق نسخة رقمية منه ستمنح واشنطن نفوذاً أوسع حتى في المناطق الرمادية حيث يصعب التحكم بالطرق التقليدية.
في الجهة الأخرى، الصين تراقب وتتوجّس. رغم كل محاولاتها لإطلاق اليوان الرقمي، بقي تأثيره محدوداً: داخلياً لم يتجاوز تجارب محلية، وخارجياً لم يُحقق الزخم المطلوب، خصوصاً مع تراجع اهتمام البنوك المركزية حول العالم بالعملات الرقمية الرسمية.
نقطة ضعف الصين
هنا تظهر ثغرة حقيقية في الاقتصاد الصيني. فالصين دولة مصدّرة أولى في العالم، وتشغيل هذا المحرك الاقتصادي يعتمد على ملايين الشركات الصغيرة. هذه الشركات تسعى لتوفير التكاليف وتجنّب تقلبات العملات، وقد تجد في العملات المستقرة بالدولار حلاً عملياً.
ولو بدأت تلك الشركات باستخدام هذه العملات في منصات أجنبية، قد تجد السلطات الصينية نفسها في موقف محرج. العائلات الصينية نفسها قد تبدأ بتجميع أرصدة مشفّرة تُستخدم في السفر، التعليم، العقارات… أو حتى التداول في “بتكوين”.
رهان الصين
قبل أن تفلت الأمور من يدها، بدأت الصين تضع ثقلها في هونغ كونغ، التي تُعد واحدة من أكثر المناطق تحرّراً رقمياً في آسيا. هناك، يُعمل حالياً على قانون جديد ينظم العملات المستقرة، وتُعد هونغ كونغ من الأماكن القليلة التي تسمح بإطلاق عملات رقمية مدعومة بعملة رسمية — وهي هنا دولار هونغ كونغ المرتبط بالدولار الأمريكي.
من خلال هذا الربط، يمكن للصين أن تسمح لبعض الشركات باستخدام العملات المستقرة، ولكن ضمن بيئة قانونية مُراقَبة. أي أنها تمسك بالعصا من المنتصف: تفتح نافذة على عالم العملات الرقمية، ولكن من دون مجازفة.
اللعبة لم تنتهِ بعد
الدولار الرقمي ليس مجرد مشروع مالي حديث، بل تحوّل إلى أداة تُعيد رسم خارطة النفوذ العالمي بلغة التكنولوجيا. الصين تسعى لضبط حركة المال، لكنها مضطرة لترك بعض الثغرات المفتوحة. في النهاية، لن تفوز العملة الأكثر ذكاءً أو سرعةً فقط، بل تلك التي يثق بها الناس ويقبلونها في حياتهم اليومية.